كتاب عربي 21

الزعامة بين المنظر والفتوة

طارق الكحلاوي
1300x600
1300x600
التنظيمات الراديكالية التي تميل فطريا نحو العنف تعيش مأزقا في جوهر هويتها. ففي حين لا يمكن ان تستغني بسبب ضرورات التعبئة الايديلوجية المستمرة عن المنظر العقائدي لا يمكن ان تستغني في ذات الوقت عن القائد الميداني القادر ان يحسم وينظم الصفوف نحو العمل العنيف الناجع. هي، بهكذا توتر، مشتتة بين زعيمين. ومن ثمة مأزقها الذي يحمل شروط تدميرها الذاتي. 

كان التنظيم البلشفي بعد ثورة اكتوبر في حالة حيرة إذ كيف لشخص غير كاريزمي بلا مواهب تنظيرية مثل جوزيف ستالين أن يتبوأ موقعا قياديا ويفرض توجهه على حزب منظره الرئيسي فلاديمير ايليتش لينين لايزال على قيد الحياة يموت ببطئ قرب زوجته التي تتلقى الشتائم والاهانات من الجورجي الفظ ستالين.

في الحقيقة الأخير كان فتوة الحزب الذي صعد في صفوفه وفي احيان كثيرة بدعم من لينين نفسه لأنه كان "ناجعا" في المهام التي لا يقدر على تنفيذها منظرو الحزب من مثقفي الطبقة الطبقة الوسطى مثل كامنيف وزينوفييف والشاب بوخارين. كان يشرف في السنوات الاولى للتنظيم على أعماله الاكثر سرية بما في ذلك السرقة لتوفير التمويل لحزب محاصر ولم يكن يظهر اي رحمة في تطبيق تعليمات الحزب الصارمة في الحرب الاهلية بعد الثورة، بما في ذلك في وطنه الأم جورجيا. 

لم يكن لينين يحب ستالين بل كان يمقته في اخر حياته مثلما اصبح واضحا في "وصيته" المشهورة التي تم إخفاؤها عن الحزب. لكنه كان يعرف جيدا مزاياه في تنظيم "الرعاع" وقيادة عصابات من الموالين بشكل أعمى وفي طاعة كلية لتنفيذ الاوامر والتعليمات بلا نقاش.

في نهاية الأمر استسلم الحزب لقيادة الفتوة الذي فرض نسقه الخاص لحاكم ارعن يتجاوز حتى الاعراف التي وضعها لنفسه ليجعل الرعب والانتقام الدموي واحيانا القتل الاستعراضي لرفاقه العقيدة الجديدة للدولة بما جعل القاسم المشترك للانتماء لحزب قاد احد اخطر الثورات الحديثة هو الرعب المشترك من الزعيم. ادى ذلك الى قتل اي نفس ابداعي على المستوى التنظيري وموت التجربة بكليتها. 

رغم كل الاختلافات الواضحة في المضمون بين التنظيمات الراديكالية من اليسارية الراديكالية الى الدينية المتشددة إلا ان نفس التناقض البنيوي على مستوى الزعامة يبرز بشكل متكرر. اذ يمكن ملاحظة ذات المعضلة الرئيسية المستنزفة لتيار السلفية الجهادية والذي يجعلها بشكل دوري وميكانيكي في حالة مازق وتدمير ذاتي.

التناقض بين نخبة التأطير "الشرعي" الفكري ذات النفوذ المهيمن في لحظات التاسيس الحركي ومجموعات العمل الميداني من اصحاب القوة والفتوة الذين يدفعون للقطع مع الحركية السلمية والإسراع في العدة واطلاق العمل المسلح "الجهادي". المفارقة الاساسية ان اسهام نخبة التأطير الشرعي أو التنظير هو بالأساس بناء فكرة ضرورة ممارسة "الجهاد" ومن ثمة يقومون بتعبئة زعامات الفتوة، غير ان التنفيذ العملي لعملية "الجهاد" يستوجب موضوعيا تمرد عناصر الفتوة على نخبة التنظير وامساكهم بزمام الامر. 

وهكذا فقط نفهم تواري القيادات "الشرعية" المنظرة وراء الستار في اللحظة المفصلية لاندلاع العنف في الجزائر بداية التسعينات والبروز المفاجئ لقيادات شابة مجهولة او في احسن الاحوال من الصف الثاني امتيازها الوحيد السطوة والجرأة العسكرية العملياتية، أشخاص مثل عبد الحق لعيايدة ومدني مزراق وفوضيل القوسيمي وجمال الزيتوني وعنتر الزوابري.

اهم مشهد لهذه المفارقة هو التفوق التنظيمي عند الانتقال من التنظيم السياسي "الجبهة الاسلامية للانقاذ" الى مرحلة "الجماعة الاسلامية المسلحة" للقوسيمي والزيتوني على حساب عدد من منظري "الجبهة" وتيار "الجزأرة" العتيد محمد سعيد ورجام الذين ساهما في توحيد "الجماعة" والذين تم تصفيتهما بشكل دموي في الجبال القصية بامر من زيتوني. 

هذه الاستعارات لا تؤدي فقط الى تحجيم نفوذ النخبة المسيسة ذات الحساسية التكتيكية والاستراتجية بل والاهم استغراق القيادة الميدانية الجديدة نظرا لطبيعتها في حالة عنف منفلت يصبح فيه "الجهاد" واسالة الدم تحديدا وخاصة عبر اشكال استعراضية شرطا أساسيا للوجود والبقاء. اذ معيار التفوق في الفتوة هو التمايز في التدمير.

وهكذا فقط نفهم التأثير الهائل للزرقاوي كنموذج للقائد الفتوة واميرا للحرب عبر تسميته من قبل أنصاره بكل فخر بـ"امير الذباحين". ليس المهم نوع إسالة الدم الاستعراضي لكن كثافته. ومثلما يقول مدني مزراق، زعيم "الجيش الاسلامي للانقاذ" والذي نزل من الجبال بعد "المصالحة الوطنية"،  في حوار مؤخرا على موقع "الشروق تي في" في توصيفه  لسلم الارتقاء الارتقاء التنظيمي في صفوف الجماعة المسلحة: من يقتل اكثر لديه حظوظا اكبر لكي يكون الامير او في اقل الأحوال قريبا من الامير وربما خليفته. 

في حمى التدمير الدموي تصبح البوصلة السياسية وكل مقوماتها من براغماتية ومقاصدية وتقديرات موضوعية مسالة ليس ثانوية فحسب لكن مثيرة للشكوك. ويتحول  مجرد تعبير "السياسي" في هذا السياق الى مؤشر على "انحراف عن العقيدة". تنقلب الأدوار حينها حيث تتوارى النخبة المنظرة "الشرعية"موضوعيا الى منبه يائس على الاسترشاد بالبوصلة السياسية البراغماتية في حين يتحول امير الحرب الى المصدر الرئيسي لمرجعيات العقيدة و"اجتهاداتها" او تنزيلاتها بما يخدم منطق التدمير المستمر.

هنا تتنوع السيناريوهات بين صدام المنظر بالفتوة الى استكانة المنظر للفتوة. هذا التراوح بين الصدام والاستكانة نجده مثلا في تجربة المنظر ابو قتادة الفسلطيني مع زعيم "الجماعة الاسلامية المسحلة" وسط التسعينات جمال الزيتوني (عبد الرحمان الأمين) وفقا لشهادة ابو مصعب السوري الذي تبادل مع ابو قتادة التأثير النظري من لندن على التنظيم الجزائري.

 ايضا العلاقة المتوترة لابو محمد المقدسي في مواجهة ابو مصعب الزرقاوي، ومؤخرا بشكل خاص علاقة المنظرين التاريخيين للقاعدة مثل ايمن الظواهري والمقدسي وابو قتادة في مواجهة الزعماء الفتوة الميدانيين في المجال العراقي لتنظيم "الدولة الاسلامية في العراق والشام" كل من ابو عمر البغدادي ثم أبو بكر البغدادي. 
التعليقات (0)