مقالات مختارة

جو تو هيل!

بلال فضل
1300x600
1300x600
فتحت التليفزيون لأعرف تداعيات ما يجرى فى المنصورة من أحداث لا تسر الخاطر، فوجدت «لجل حظى العفش» على قناة الحياة خبيرا استراتيجيا بدرجة لواء أركان حرب سابق يزعق قائلا «إحنا مصر دولة قوية كنا سلة الغلال لألف عام وهنهزم الإخوان زى ما هزمنا التتار وأحب أقول للدول الغربية.. وى آر سترونج آند وى دونت فى يو.. آند وى وورن يو وى آر ريدى فور زيس.. آند وى كان ديفيت يو»، ثم قرر فجأة التوقف عن الكلام بالإنجليزية ليضيف «وأقول لبعض الشباب بطلوا مظاهرات فورا»، للأسف انتهت «نِمرة» سيادته قبل أن أتصل بالبرنامج لأفهم منه هل يعتقد حقا أن الدول الغربية كلفت مندوبين بالفرجة عليه فى برنامج قناة الحياة ولذلك قرر أن يترجم لها كلامه بالإنجليزية، مع أنه كان يمكن أن يتركها تتلظى من الحيرة وهى تحاول فهمه، حتى تفاجأ بمباغتتنا لها والانتصار عليها كما انتصرنا على التتار.

أقفلت التليفزيون وذهبت إلى الانترنت بحثا عن أخبار تبل الريق فوجدت خبرا يقول إن محافظ الدقهلية خلال اتصال بأحد البرامج زف بشرى سارة للمواطنين بأن عملية التفجير تم تصويرها كاملة من كاميرات مراقبة بنك مجاور للمديرية، لم أقرأ فى الخبر هل سأله مذيع البرنامج ولماذا لا تمتلك مديرية الأمن كاميرات مراقبة مثلما يفترض بأى مؤسسة أمنية كما بات يحدث حتى فى البلاد الربع كم التى تؤمن كل المناطق الحيوية بشبكات مراقبة كان يمكن تمويل تكلفتها باقتطاع نسبة من المليارات التى صرفت على مرتبات مديرى الأمن وأدوات التعذيب والتصنت وعربات مكافحة الشغب المصفحة التى لم تفعل شيئا سوى زيادة أسباب الشغب.

تذكرت عندها موقفا حدث عندما سافرت إلى واشنطن ومررت إلى جوار المبنى الرئيسى لـ«إف بى آى» أكبر الأجهزة الأمنية فى العالم والذى يقع فى قلب العاصمة الأمريكية، فاستغربت عدم إحاطة المكان بأى كمائن أو لجان أو نقاط تفتيش أو حتى حواجز حديدية قبيحة الشكل، قلت لصديقى المقيم فى المدينة «بالتأكيد هذا المبنى مهجور ومنظر على الفاضى وإلا لما تركوه هكذا دون حراسة»، فرد ساخرا «ستكتشف أن المبنى ليس مهجورا وأنه محروس أكثر من اللازم إذا قمت مثلا برمى شنطتك باتجاه المبنى لكن افعل ذلك عندما أبتعد عنك قليلا»، لم يكد يكمل كلامه حتى وقع ما أكد صحة كلامه دون أن اقوم برمى الشنطة، فقد تعطل أتوبيس نقل عام ووقف إلى جوار المبنى بعيدا عن محطته المعتادة التى تقع على بعد شارعين، وفى لمح البصر خرجت من داخل المبنى باتجاه الأتوبيس سيارة مصفحة حولها أكثر من ضابط بصحبة كلاب بوليسية، ليصرخ السائق فى القادمين «لدى مشكلة فى المحرك»، الغريب أنه لم يقترب أحد منا نحن ولا من المارة الآخرين الذين كانوا يشكلون تمثيلا لعدد من شعوب الأرض كما هو الحال فى أى مدينة أمريكية كبيرة، وخلال لحظات خرجت من المبنى شاحنة قامت فى لحظات بقطر الأتوبيس ودون ضجيج مصحوب بعبارات «عجلة ورا يا اسطى.. اكسر يمين شوية.. بتنيل إيه يخرب بيت أمك»، لتعود المنطقة المحيطة بالمكان إلى هدوئها الخادع الذى يسر الناظرين.

كل من سافر إلى أى مدينة من مدن الدول التى تحترم مواطنيها يدرك أن تلك الدول أدركت أن نشر الشعور بالأمن يرتبط بغياب مظاهر الوجود الأمنى المكثفة التى تثير الفزع، لكى تكون موجودة فقط فى الأيام التى يوجد بها مثلا احتفالات عامة تزدحم فيها الشوارع، عندها يكون الوجود المكثف للشرطة أمرا مهما لقطع الطريق على من يفكر فى استغلال الزحام فى عمل يخل بالأمن.

وبالطبع عندما تقول كلاما كهذا سيظهر لك من يستسهل الحديث عن الفرق بين أخلاقياتنا وأخلاقيات الشعوب المتقدمة و«إحنا فين وهم فين انت هتقارننا بيهم»، والمؤكد أنك فى الغالب خلال مناقشتك لهذا الشخص الذى يمثل مدرسة تفكير شائعة فى بلادنا، ستكتشف أنه يحمل أفكارا عنصرية بحق الشعوب العربية والأفريقية والآسيوية، وأنه فى نفس الوقت الذى يعتقد أننا محكومون بلعنة أزلية تجعلنا متخلفين، يحمل فى نفس الدماغ أفكارا عنصرية تمجد فى المصريين وتمنحهم تفوقا عرقيا على كل شعوب الأرض.

للأسف فإن مثل هذه الضلالات الجماعية التى تغذيها وسائل الإعلام هى التى تجعلنا ننسى أن الشعوب المتقدمة لم تولد متقدمة، بل كانت تعانى من نفس أمراضنا ومشاكلنا، بل إن مشكلة انفلات الأمن مثلا ظلت موجودة فى أهم العواصم العالمية وحتى وقت قريب بشكل مزعج لم نشهده فى أى وقت من الأوقات، لكن مسئولى تلك العواصم مثل مسئولى دولهم يصلون إلى مقاعدهم بالانتخاب ولا يبقيهم عليها رضا الأجهزة السيادية بل رضا رجل الشارع وحده، ولذلك فهم مجبرون خوفا من غضب المواطن على معالجة الأخطاء بشكل علمى كان يمكن أن نستفيد منه لو كنا راغبين فى إصلاح أوضاعنا الأمنية، لكننا نفضل أن نستورد من أمريكا أسلحة قمع المتظاهرين وأدوات التعذيب بدلا من أن نستفيد مثلا من تجربة عمدة نيويورك الشهير رودلف جوليانى فى القضاء على الجريمة المنظمة أو تأمين المناطق المزدحمة بشبكات مراقبة الكترونية، أو نفكر فى فعل أى شىء لرفع مستوى خيالات المآتة من الأمناء والجنود الغلابة الذين ينشرون شعورا كاذبا بالوجود الأمنى فى الشارع لا نفكر فى تصحيحه برغم كل كارثة و«اللى أنقح منها».

قادتنى خطاى اللعينة أخيرا إلى موقع تواصل اجتماعى نشرت فيه صديقة إعلامية خبرا يقول إن نادى أعضاء هيئة تدريس جامعة الأزهر اقترح تهجير أهالى سيناء الشرفاء لكى يستطيع الجيش ضرب الإرهاب، وهو اقتراح وجدته الصديقة جديرا بالتطبيق الفورى «عشان زهقنا بقى من خنقة الإرهاب»، فوجدت نفسى أصرخ «دونت دو إنى ثينج تو ديفيت أس.. وى ويل فينيش آور سيلفز ويذ آور سيلفز.. سانكيو جو تو هيل»، ولكى لا تفهم قلبتى المفاجئة للإنجليزية خطأ، فأنا يا سيدى لا أخاطبك، بل كنت أقتدى بسيادة اللواء أركان حرب وأخاطب الدول الغربية التى سنهزمها مثلما هزمنا التتار والإخوان.

(عن الشروق المصرية)
التعليقات (0)