كتاب عربي 21

الكشف واليقين في عنف وفوضى الثورات العربية

ساري عرابي
1300x600
1300x600
إذا كانت الحجة الطاغوتية الأزلية التي تنافح عن بقاء الطواغيت هي التخويف من مآلات زوالهم، فإن هذا لا يعني أكثر من أنه لا ينبغي على مقاومي البنى الطاغوتية أن يعبأوا كثيرًا بمآلات هدم هذه البنى، وإذا كان معنى الأمن والاستقرار، استمرار هذه البنى، وبقاءها ضابطًا للعلاقة الصراعية التي أوجدتها حينما مزقت الناس إلى شيع وابتدعت مجالات سياسية وثقافية متصارعة، فإنه لا بد من تحرير الناس، وتحرير أمنهم واستقرارهم ولقمة عيشهم، من ارتباطهم بالبنى الطاغوتية التي تستخدمهم رهائن لضمان بقائها، وهو الأمر الذي يعني بالضرورة تفجر العنف والفوضى كمرحلة انتقالية طويلة، خاصة من بعد مرحلة جمود طويلة، ومع استحقاقات عظمى لا تزال معلقة، ومرتبطة بقوى كبرى ترعى هذه البنى القائمة في سياقنا العربي الإسلامي، وهو ما يعني أن حجم العنف والفوضى سيكون كبيرًا لكثرة الفاعلين في هذا السياق محليًا وإقليميًا ودوليًا، ولعظمة الاستحقاقات المطلوبة والتي لا تزال معلقة منذ أكثر من قرن من الزمان.

وبالرغم من الاحتياج الغريزي إلى الأمن، وخوف الناس الطبيعي من الفوضى، فإن السعي لهدم البنى الطاغوتية التي تختطف الناس وترهنهم إلى بقائها واستمرارها على حساب المعنى الحقيقي من وجودهم، ولكي تقدمهم قرابين إلى بنى طاغوتية أخرى أكبر منها، في معبد النظام الدولي، فإن الذي يثير الدهشة لا السعي إلى هدمها بالرغم من مآلاتها المتحققة، وإنما الخوف من هذه المآلات، والحرص على هذا الجمود الذي استمر عقودًا طويلة دون أن يحمل أي بشرى في مستقبل أفضل، وإنما حمل فقط تعبيد الناس لهؤلاء الطواغيت، وقهر الناس بهذه البنى التي تسمى "دولة" والتي لا عمل لها إلا القهر والتوحش المستمر في الطغيان، وحتمًا استمرار الحالة الاستعمارية المسماة "إسرائيل".

والحق أن هذه التحولات الكبرى في مجرى التاريخ، لا تنطبع بالعنف والفوضى فقط، وإنما تتسم بالكشف وتصدم باليقين، اللذين لا يتحققان إلا بامتحان العنف والفوضى، وانطلاق الخشية على النفس والمال والولد من عقالها بلا رابط ولا حاجب، فهي من ناحية تخرج أثقال النفوس كلها، وتنقل تلك الأثقال إلى ألسنة الناس وجوارحهم، فتسفر عن حقائقهم، وتبين عن مكنوناتهم، كشرط لا بد منه لعملية التطهير والتمايز، وإزالة حضور الطغيان وفساده في النفوس وفي علاقات الناس ببعضهم، وللبناء من جديد على أساس من الوضوح والمعرفة، وعلى ضوء ما أسفرت عنه السنوات العصيبة من الكفاح الدامي.

ومن هنا كان الوعي في أبهى تجلياته، والثوار الحقيقيون، يطلقون على ثوراتهم: «الكاشفة»، ابتداء من الثورة السورية، وليس انتهاء بالثورة المصرية الجارية الآن، حتى صارت حجة الطواغيت الأزلية التي تنافح عن بقائهم حجة أصحاب الشعارات الثورية الكلاسيكية من يساريين وقوميين وإسلاميين شيعة، في التصدي لهذه الثورات التي يبدو أنها أكبر من أن تكون مجرد ثورات محلية على نظم سياسية فاسدة، لتكون ثورات على المنظومة الإقليمية المصطنعة استعماريًا، وعلى النظام الدولي الاستعماري، وعلى الهويات الضيقة المفارقة لعموم الأمة، وبهذا فجأة يصبح جيش كامب ديفد لدى هؤلاء الأدعياء الجيش الوحيد المتبقي للعرب، ولفلسطين!

ومن ناحية أخرى، فإنها تصدم باليقين، وتعطي الجواب على كل المقاربات التي حاولها المصلحون طوال قرن من الزمان، والتي أُسِر لها المصلحون منذ أربعين سنة، فيما ظهر وكأنها هزيمة نهائية أمام هذه البنى، وكأن التاريخ انتهى عند هذه الدولة "الحديثة" التي أوجدها المستعمر، وأشقانا بها، وأشقى وعينا، وصارت خلاصة جهدنا أن تعترف بنا بعد أن نعترف بها، وإذا بالإجابة في أن في هذه الأمة مكنونًا هائلاً من القدرة على الفعل والمقاومة والهدم والصبر، وأن هذه البنى بآلتها الباطشة متناهية ويمكن استنفادها ولكن بكثر من الصبر والوعي.

بيد أن الأهم من ذلك، أن سؤال النصر والنجاح يتوارى بالتدريج، خلف صدمة اليقين، لصالح نشوة التعالي على القيم المادية، والقيام بالواجب، المتمثل في المواجهة المكلفة والباهظة، واكتشاف القدرات الذاتية المخبوءة والمودعة في هذا الإنسان من لدن حكم خبير، فيصبح النجاح الحقيقي في توفر الاستعداد لمواجهة الطغيان ودفع الأثمان المترتبة على ذلك، حتى يسترد الإنسان بذلك من جديد معنى وجوده، بعدما طمسته سنوات القهر والحيرة وطغيان القيم المادية.

غير أن تلك العقود التي سبقت هذه الثورات، لم تكن جمودًا فعليًا، وإنما كانت حالة مبهمة تطوي على حركة غامضة كانت تنتظر لحظتها التاريخية للانفجار، فهذه الدولة الوطنية الحديثة كانت في حقيقتها التعبير الأبرز عن استمرار الإخفاق في مجالنا العربي، وعن تعزيز حالة التوتر التي تعتري وعي هذا الإنسان في هذا المجال، هذا التوتر الناتج عن تشوه وعيه ما بين هوية مصطنعة لدولة لم تحقق له الحد الأدنى من طموحاته الآدمية، وشعوره بالانتماء لأفق مفتوح ممتد متجاوز لهذه الهويات المفتقدة للمعنى، ولأي مبرر تاريخي أو جغرافي، مع استمرار حضور استعماري مذل ومخزي في قلب هذا المجال، وللمقدس المكاني الثالث لدى المسلمين من بعد المسجدين الحرام والنبوي، وحتى تلك البلدان التي تطفو على سطحها فقاعة مخادعة من الرفاه المادي، تعيش قلقًا وجوديًا مزمنًا، خشية من بعضها وهي التي لا تملك أي مبرر لوجودها منفصلة عن بعضها، وخشية من دول الإقليم الكبرى، ما يجعلها رهينة لحماية إله معبد النظام الدولي الأكبر (أمريكا).

وتبدو هذه القوى التي تلتقي للإجهاز على الثورات العربية اليوم، وخاصة على الحركة الإسلامية فيها، مدركة لحقيقة التغيرات التي تضرب اليوم في عمق هذه اللحظة التاريخية، وفي عمق المكان، فتخوض حربها الاستباقية، مجتمعة رغم كل تناقضاتها، لاحتواء هذه الحركة التاريخية، وردها إلى الوراء، وفي لحظة الاجتماع هذه على وجه الخصوص، تزيغ الأبصار وتبلغ القلوب الحناجر، غير أن اتساع الحركة التاريخية، والقدر الخفي الذي يجريها، والقدرة العالية على المقاومة والصمود التي فاجأت أصحابها كما فاجأت الملأ من الطواغيت وجنودهم، هي التي ستجعل أصحاب هذا الكيد هم الأخسرين.

ولن تكون هذه المنطقة وشعوبها بدعًا من التاريخ الإنساني، الذي دفعت في مراحل تحوله الكبرى، وثوراته العظيمة، وانتقالاته الواسعة، دماء كثيرة أجريت في مجراه، إلا أن التحولات في هذه المنطقة سيكون لها معنى أعظم وأكبر وأجل، وهو ما يستأهل أثمانًا أكبر مما دفعه الآخرون.
التعليقات (0)