كتاب عربي 21

التعليم العالي الهابط والآخر "الأهبط"

جعفر عباس
1300x600
1300x600
استعانت صحيفة تايمز اللندنية، بألف وثلاثمائة أكاديمي من 88 دولة لوضع قائمة بأفضل مائة جامعة في مجال تدريس العلوم الطبيعية والتطبيقية، وجاءت جامعة كيمبريدج البريطانية على رأس القائمة، ولكن الجامعات الأمريكية احتلت 25% من القائمة، التي ضمت جامعتين إسرائيليتين، وتقاسمت مواقع مختلفة في القائمة جامعات فرنسية وكندية وألمانية واسترالية وروسية وكورية، وحتى بلد صغير مثل نيوزيلندا ليس فيه أكثر من خمس جامعات وجد مكانا في القائمة، وقطعاً كانت القائمة طويلة قبل إجراء التصفيات، وبالتأكيد وحتما لم تكن هناك جامعة عربية واحدة بين أفضل ألف جامعة في العالم في مجال العلوم..

بل لا أعتقد أن هناك جامعة عربية تقترب من مكانة "سواس"، وهي كلية الدارسات الشرقية والأفريقية في جامعة لندن، في مجال الدارسات "العربية/ الشرق أوسطية"، والسبب في ذلك هو أن الجامعات عندنا ليس أكثر من مدارس ثانوية "عليا"، يبدأ النشاط فيها وينتهي بجرس رنينه غير مسموع، وتنتهي علاقة الطالب بالجامعة بانتهاء المحاضرة "الأخيرة"، ويا ويل من يضبط متسكعا في أروقة الجامعة بعد نهاية "الدوام"، فالحرس/ الأمن الجامعي بالمرصاد لكل من تسول له نفسه التسلل إلى المكتبة في الأمسيات أو خلال العطل العامة، وما اسمعه عن كليات البنات في الجامعات العربية يعطيني الانطباع بأنها تدار على أنها إصلاحيات ودور رعاية للجانحات: قيام.. جلوس.. ممنوع الدخول .. تريدين الذهاب إلى العيادة؟ لا يجوز أن تمرضي دون علم ولي أمرك!! لماذا وصلت في الصباح الباكر قبل بدء المحاضرات بثلاث أرباع الساعة؟ يا ويلك إذا دخلت قاعة محاضرات أو المكتبة!!.

فالجامعة عندنا هي أن يجلس الطالب أو الطالبة في أدب لالتقاط الدرر التي ينثرها الأستاذ، دون أن يكون مطالبا حتى بحسن الإصغاء! ولا داعي للتعب ووجع الرأس فكلام الأستاذ سيصدر في مذكرات توزع عبر عشرات المكتبات، التي تتولى أيضا (مشكورة) إعداد "البحوث" نيابة عن الطلاب نظير مبلغ معلوم!

قبل ثلاثين سنة فقط كانت كلية الطب في جامعة الخرطوم، مصنفة من قبل هيئة الصحة العالمية ضمن أفضل خمسين كلية طب في العالم، وكان من حسن حظي ان تلقيت تعليمي في تلك الجامعة التي لم تكن الحركة تهدأ في أروقتها إلا في نحو الثالثة فجرا.

أما اليوم فقد أصبحت تلك الجامعة مثل نظيراتها في البؤس في العالم العربي: الدرس انتهى لموا الكراريس وكل حي يروح لحاله، وتطفأ الأنوار وتغلق الأبواب التي يحرسها شبيحة من النوع الذي تراه في "درعا وحلب" أو نساء عابسات، وكل شيء ممنوع بعد نهاية اليوم الدراسي إلا بتصريح يحمل تواقيع عشرة وزراء الدفاع والطاقة والزراعة ومدير الجمارك. 


هذا هو حال التعليم العالي في بلداننا، وكلمة "عالي" هنا من باب "ألقاب مملكة في غير موضعها/ كالهر يحكي انتفاخا صولة الأسد"، وفوق هذا كله فإنها توحي بأن التعليم ما دون تلك المرحلة "واطي"، وأهدي إليكم حكاية ذات دلالات بليغة تؤكد أن التعليم بمختلف درجاته عندنا في حالة موت دماغي، فقبل سنوات قليلة، وقف طفل مصري في الحادية عشرة، أمام موظفة شركة مصر للطيران في الإسكندرية، وطلب منها تذكرة سفر إلى كندا، فسألته الموظفة عن الباسبور فقال لها: هو ده يا طنط، وقلبت طنط أوراق جواز السفر فوجدته خاصا بأم الطفل ووجدت اسمه مضافا فيه، فسألته: مسافر لوحدك قال: آآآآ!! عندك فيزا دخول كندا؟ قال: فيزا يعني إيه؟ طب فين فلوس التذكرة؟ هنا وضع الطفل أمامها رزمة مؤلفة من ثلاثة آلاف جنيه (لم يكن الجنيه المصري وقتها قد تعلم العوم ومع هذا كان قوي البنية).

هنا نسيت الموظفة التوجيهات التي تقضي بأن تعيد للزبون نقوده وجواز سفره لأنه لا يملك تأشيرة دخول إلى كندا، وتقول له: أدينا عرض أكتافك، بعد أن استيقظت فيها غريزة الأمومة التي تتمتع بها كل أنثى حتى لو كانت في الرابعة من العمر، وسألته: انت في سنة كام يا شاطر؟ فقال انه في الصف الخامس!! عايز تروح كندا ليه؟ عايز أدرس هناك!! طب ليه ما تدرسش هنا؟.. الله يخليكي يا طنط أديني التذكرة،.. مش عايز ادرس هنا.. أصلهم بيضربونا ويشتمونا لو ما حفظناش الدروس!! ماما عارفة إنك مسافر؟ في الحقيقة هي ما بتعرفش أوي.. بس حتعرف لأني سبت رسالة في البيت بقول لها باي باي وأوعدها بأني حارسل لها جواب كل يوم، ثم واصل تزويد طنط مصر للطيران بتفاصيل ما حدث: ماما طلعت الشغل قمت شلت الباسبور، ولقيت في الدولاب فلوس كتيييرة وخدتها عشان أروح كندا.. بيقولوا مدارسها حلوة وما بيضربوش فيها العيال.

هذا الطفل المصري "نابغة"، عرف وهو في تلك السن الغضة، أن التعليم في بلده فيه الكثير من "التأليم" والأذى الجسيم، (أذكر مقالا للأستاذ فهمي هويدي عن معلمة كانت تقول لتلاميذها في درس عن "المهاجرين والأنصار" إن الأنصار هم النصارى اللي كانوا في المدينة المنورة) ولم يفكر النابغة في الهرب إلى الشوارع أو إلى بعض أقاربه في مدينة او قرية أخرى، بل قرر الذهاب إلى بلد آخر يتلقى فيه تعليما حقيقيا. ومن المهم أن ننتبه إلى أنه كان يود لو ينتمي إلى أقلية ضئيلة العدد تسافر إلى الغرب ليس بغرض "الصرمحة والصياعة"، كما يفعل كثيرون ممن يطلبون "اللجوء السياسي" في الغرب، بل للحصول على اللجوء الدراسي.

ووصفت الطفل بالنابغة، لأنه وبعبارات قصيرة مكثفة قال في إدانة نظامنا التعليمي ما عجز عن قوله خبراء اليونسكو وجيوش الموجهين التربويين وخبراء المناهج.

طفل ذكي يريد استخدام عقله ويريد ان يعرف لماذا مناخ البحر الأبيض المتوسط حار جاف صيفا، دافئ ممطر شتاء، دون أن يقول له المدرس: مش شغلك يا حمار..هي كده وبس! ويريد أن يعرف ما معنى أن الماء يتكون من عنصرين من الهيدروجين وعنصر واحد من الأوكسجين، وهل سيتحول الماء إلى قنبلة هيدروجينية لو وضعنا فيه خمسة عناصر هيدروجين إضافية!.

باختصار أدرك النابغة المصري انه كان في مدرسة شكلا و"سيرك" محتوى، يقوم فيه المعلم بدور مروض الوحوش، وأدرك إنه آدمي ينبغي ان يكون في مدرسة لبني البشر.. ومن ثم فإنني أناشد كندا منحه تأشيرة صالحة لـ12 سنة ليكمل دراسته فيها (كان ذلك قبل أحداث 11 سبتمبر الأغبر).
التعليقات (1)
سلمان
الأربعاء، 15-01-2014 04:14 ص
اعجبني كثير هدفك عزيزي الكاتب لكن وصفك كان مبالغا جدا جدا جدا جدا انا اؤويدك كثيرا في عدم بلوغ الجامعات العربية للصفوف الاولى لكن لايعني بما ذكرت قد يحصل هنا عندنا جامعاتنا موفرة خدماتها المكتبية والخدمات الاخرى طوال اليوم الا وقت محدد كما تخصص مكان يدعى المرسم لطلاب التخطيط والعمارة مفتوح 24 ساعة طوال اليوم اما عن الضرب و وعدم الاجابة على اسئلى اسئلة الطلاب قليلا ما يحدث في هذا الموضوع ارى ان المبالغة شوهت هدفك وهو زيادة كفائات الجامعات العربية