كتاب عربي 21

الاتحاد العام التونسي للشغل: نقابة أم جماعة سياسية؟

نور الدين العلوي
1300x600
1300x600

التحليلات المتعاطفة مع التجربة السياسية والمدنية التونسية تقع دائما في تمجيد مؤسسات المجتمع المدني المتطورة، وتسمي الاتحاد العام التونسي للشغل والرابطة التونسية لحقوق الإنسان، وتتوسع في القول إن هناك مؤسسات مجتمع مدني متقدمة وفعالة، ثم تقفز إلى المقارنة بالتجربة الليبية عملا بإشهار الضد بضده. ولقد كان هذا الخطاب يداعب غرور الكثير من التونسيين خاصة إذا وضعوا في هذه المقارنة مع بقية الدولة العربية. ولذلك ظل موقع مؤسسة مثل الاتحاد موضع تبجيل وتقدير وصل إلى حد التوثين. فنقد الاتحاد وقياداته المقدسة خط أحمر أو هو كفر صريح.

بعض شرعية تاريخية

 بالعودة إلى التاريخ نجد أسباب العلاقة الشعبية العاطفية غير العقلانية مع هذه المؤسسة دون غيرها، فهي مؤسسة ينسب لها جهد كبير في معركة التحرير الوطني وقد زاد اغتيال فرحات حشاد -أحد المؤسسين- في قوة التعاطف مع المنظمة، ووضعها فوق النقد فالاتحاد هو حشاد وأحمد التليلي المقدسين. أما تحت حكم الدكتاتورية خاصة منذ أول السبعينات فقد تحولت المؤسسة إلى مكمن لكل التيارات السياسية اليسارية، خاصة لممارسة المعارضة السياسية باستعمال المطلب الاجتماعي. لا يمكن جحود المكاسب الاجتماعية التي حصلت من ذلك ولكن كثيرا ما حصل السياسيون مكاسب سياسية تحت غطاء تحرك مطلبي يحل خارج النقابة في صفقة جانبية لا تكشف للقواعد.

أثناء الثورة نسب إلى الاتحاد تنظيم الثورة وقيادتها، وهي مغالطة فجة فالقيادة النقابية وقفت حتى آخر لحظة مع نظام المخلوع وساندته وتبرأت من التحركات التي كانت تتم في مقرات الفروع الجهوية، ويشارك فيها نقابيون تمردوا على قيادتهم وصنفوها ضمن النظام الذي يجب أن يسقط، وتحالفوا مع الشارع ضدها ولكن في ردهات الثورة الأهم -خاصة اعتصامي القصبة- عادت نفس القيادة للتحالف ضد الثورة بزعم قيادتها، وفرضت عليها الحل القائم على جبر النظام السابق والعمل تحت خبرته. بما ضرب الثورة في مقتل رغم تكريس مبدأ التأسيس الدستوري الجديد. 

في أثناء ذلك عقد الاتحاد مؤتمرا عاديا بطبرقة، وأفرز قيادة يسارية وقومية من رحم القيادة القديمة (رغم تعديل الفصل 10 المتعلق بتحديد فترات الترشح بفترتين) ضمن تقاليد توزيع المواقع قبل التصويت -أي المحاصصة السياسية- طبقا لما كان ساريا زمن الخلط بين السياسي والنقابي تحت الدكتاتورية (المبرر والذريعة). 

السقوط الأخلاقي للنقابة

بعد انتخابات 23 أكتوبر، خسر الاتحاد مواقعه المحتملة فالقائمات التي ساندها سرا وعلانية سقطت بما كشف حجم النفوذ الحقيقي للمنظمة في الشارع. وقد صعدت أغلبية غير متوافقة مع الاتحاد وقيادته اليسارية، وشكلت حكومة رفض المشاركة فيها، وقرر الوقوف ضدها وعمل على إسقاطها بكل السبل القانونية وغير القانونية. بما في ذلك الاستثمار السياسي في الدم بعد اغتيالين لم تعرف بعد الرأس المدبرة لهما، وإن سهل إيجاد يد منفذة وتصفيتها بخبرها. وتم له ذلك لكن اللحظة الموالية لسقوطها تبين أن البلد بجميع أركانه موشك على السقوط. 

 هذا السقوط المحتمل في قادم الأيام له وجهان:

• وجه إفلاس مالي عام.
• وجه إفلاس اجتماعي عميق.

ويتم تلافي الإفلاس المالي بمزيد من التداين غير المنضبط من مؤسسات إقراض لا تعرف الرحمة بما يدخل الاقتصاد في مسار انحدار قوي يرهن البلد رهنا كاملا. 
بينما يعجز الاقتصاد عن تعديل التوزيع الاجتماعي في اللحظة الاجتماعية الحرجة لصالح فئات الأجور الدنيا لأن الأرصدة (من القطاع العام خاصة إذا بقيت المؤسسات الخاصة خارج الاحتجاج) قد تم توجيها بضغط نقابي إلى ذوي الأجور العليا بشكل غير متوازن. (41 بالمائة من زيادة الإنفاق العام في الرواتب العمومية).

ويمكن التلخيص بأنه من أجل إسقاط الحكومة غير المرغوبة سياسيا من قبل النقابة (ومن معها) تم الضغط بالاحتجاج القانوني وغير القانوني على مسار التنمية الاجتماعية المطلوبة من الثورة، وبناء مسار الديمقراطية، بما حرف الثورة عن مسارها فاسقط حكومتها الشرعية لصالح حكومة صفقات سياسية غير قانونية وأسقطت مسار الإصلاح الاقتصادي بما عطل النمو ورفع مناسيب التداين.
ماذا يبقى من النقابة الآن؟ هناك سؤال حقيقي يجب أن يطرح عن ضرورة هذه النقابة الآن؟ 
لقد سقطت النقابة أخلاقيا بعدم انحيازها إلى الشارع المفقر، وهو ذو الأولوية في الثورات، ولكن السقوط الأخلاقي لا يعني نهاية المنظمة قانونيا، فتصور المشهد الاجتماعي والسياسي في تونس بدون الاتحاد يبدو غير وارد الآن وإن كان مرغوبا لدى الكثيرين، لأنه يمثل انتقالا سريعا في المشهد من هيمنة المنظمة إلى غيابها الكامل. لذلك فإن تعديل مسار العمل النقابي يصبح مطلبا أساسيا بعد أن تبين أن القيادات النقابية اليسارية خاصة قد انحازت ضد المطلب الاجتماعي الحقيقي للثورة وتحالفت مع رأس المال (نقابة الأعراف) سياسيا لكي يتم قطع الطريق على كل تحرر اجتماعي وضعته الثورة ولا يزال على طاولة العمل السياسي. 

كيف يمكن تعديل المشهد؟

أولا: الانتباه إلى أن هذه النقابة مسيرة بشكل غير ديمقراطي بالمرة رغم الزعم الكاذب بذلك من قبل الهياكل المسيطرة، وليس أدل على ذلك من تهربها من تجديد النقابات الأساسية التي تستشعر خسارتها لصالح أعدائها النقابيين فضلا عن كثير من ممارستها غير القانونية، كالهروب بصناديق الاقتراع التي تعرف أنها تخسرها (حالة ثانوية حفور القيروان). لذلك فإن مطلب تجديد النقابات الأساسية والجهوية والقطاعية وبطرق انتخاب شفافة يصبح مطلبا حيويا في الفترة الحالية والقادمة. ويصبح شرطا للتفاوض مع القيادة النقابية. 

ثانيا: لابد من عقد مؤتمر استثنائي للمنظمة على ضوء نتائج تجديد النقابات القاعدية يقطع مع المحاصصة السياسية التي جرى بها العمل سابقا. لذلك يجب التصريح والوقوف ضد كل تفاوض مع نقابة مسيرة بطريقة غير ديمقراطية إلى حين إنجاز هذه المهام. ويجب أن تكون هناك شجاعة كافية للنظر إلى هذه النقابة في حجمها الحقيقي لا في ما تدعيه من القوة. إنها بعبع نقابي يحرض على الكسل المنهجي ويعمل بأسلوب فرض الإضرابات بالقوة والتخويف والترهيب لكل من يعارضه.

ثالثا: وهو أمر استراتيجي بالنسبة للتجربة الديمقراطية في ما بعد دستور جانفي 2014 يتجاوز الحكومة الحالية إلى كل الطيف السياسي والاجتماعي، ونعني هنا العمل على قطع الطريق على إعادة تسييس النقابة مرة أخرى باستبدال تيار سياسي بآخر بهدف إعادة توظيف المنظمة من أجل إسناد (أو إسقاط) نظام سياسي أو حزبي مهم، فلا معنى لذلك إلا المزيد من خلط النقابي بالسياسي بتغيير طفيف في اللون الأيديولوجي، لذلك فإن مطلب فرز النقابي عن السياسي يصبح مطلب العملية الديمقراطية برمتها.

 هل يمكن أن يتم ذلك في حكومة غير شرعية ومؤقتة؟  

 نميل إلى الاعتقاد أن هذه الحكومة واقعة تحت ترهيب النقابة، فهي ترى أنها الطرف الأقوى الذي جاء بها، والذي يحق له إملاء الأوامر عليها. لكن ضعف الحكومة سينقلب ضعفا على الاتحاد لأن هناك مطلبا اجتماعيا يتسرب من يد الجميع، فلا الحكومة قادرة على تلبيته بما عليها من التزامات لترضية الاتحاد (الرفع في الرواتب العليا دون المحاسبة لرأس المال الفاسد الحليف المتخفي خلف النقابة))
لذلك فإن التجديد الديمقراطي النقابي ليس على جدول أعمالها، فهي لن تستطيع إلا أن تخضع للتفاوض مع النقابة، وكل تفاوض سيكون له ثمن اجتماعي على الطبقات الهشة، لأنه يتم على خلفية انتخابية ويعمل بجهد حثيث على تقوية الحلف بين نقابة الأعراف ونقابة العمال، اللذين دخلا في اتفاق سياسي منذ بدء الاغتيالات السياسية لقطع الطريق على المنافس السياسي الأقوى وهو حزب النهضة. في هذا التحالف يمكن الضغط على ميزانية الدولة لترفيه القطاع العام بمزيد من الزيادات، لكن الضغط لن يتجه إلى أصحاب المؤسسات الاقتصادية وإلا انكسر التحالف وانهار واستفاد من انكساره الحزب الإسلامي.

الضغط على الميزانية العامة للإيهام بنضال اجتماعي، ولكن ترضية رأس المال وغض الطرف عن مطالب عماله المفقرين -من أجل بناء تحالف سياسي يستعيد السلطة من النهضة وحلفائها- لن يؤدي إلى حل المعضلات الاجتماعية، بل سيكون ترحيلا منهجيا للمطلب الاجتماعي إلى أفق مجهول. بما يبقى التهديد بالثورة أو الانتفاض الاجتماعي قائما ومؤثرا على وضع الاستقرار السياسي على المدى المتوسط والبعيد. 

هذه هي نتائج سياسية القيادة النقابية في سنتين... لقد مهدت النقابة للانقضاض على الدولة فمهدت للانقضاض على النقابة في الجهات، فالدولة أبقى رغم ما يقال عن فقر العوام للوعي السياسي إن النقابة عند الكثيرين الآن جزء مفضوح من النظام القديم ويجب أن تخلع وقد بدأت النار في بن قردان.
التعليقات (0)