كتاب عربي 21

"العلمانية" سلاح الإسلاميين وخصومهم

ياسر أبو هلالة
1300x600
1300x600
كتب ياسر أبو هلالة: في ثمانينيات القرن الماضي، وفي حوارات المفكرين محمد عابد الجابري وحسن حنفي، دعا الجابري إلى استخدام مصطلح "العقلانية" بدلا من "العلمانية" في العالم العربي؛ نظرا لسوء فهم الجماهير العربية للمصطلح الأخير. وبالفعل، فقد ارتبط هذا المصطلح بالتغريب، والدكتاتورية، ومعاداة الدين، فضلا عن توسع معناه وتعدده حتى داخل الفضاء الغربي الذي وُلد فيه.

اليوم، في ظل الحروب الأهلية العربية، يُستخدم المصطلح أداة من أدوات صناعة هوية تقسيمية للمجتمع. فإسلاميون يتهمون خصومهم بـ"العلمانيين"، بمعنى أعداء الدين؛ والخصوم يردون بذات السلاح باتهام الإسلاميين بالعمل على تأسيس الدولة الدينية التي تعادي العلم والعقل والعالم والحضارة.

في الواقع، هذا الصراع مفتعل، والتجربة الحركية الإسلامية بأكثريتها لم تتبن خطاب الدولة الدينية. لكنها في المقابل، تعاني قصورا في الفكر السياسي الذي يلبي متطلبات الدولة الحديثة. ومن الأسباب الرئيسة لهذا القصور تعثر الديمقراطية في العالم العربي الذي لم يشهد نضوجا في الفكر السياسي لدى التيارات كافة؛ سواء كانت إسلامية أم قومية أم يسارية.

في الخطاب المتطرف، يمكن أن تجد من يربط العلمانية بالإلحاد، كما في تجربة أنور خوجة في ألبانيا، وهي الدولة الوحيدة في العالم التي نص دستورها على الإلحاد. وفي التجربة الغربية يوجد من يعرف الدولة بدين. وحتى في الاتحاد الأوروبي، علت أصوات تطالب بأن تكون المسيحية جزءا من هوية الاتحاد.

في الدساتير العربية الحديثة، وجُلها ترجمت عن الدستور البلجيكي لأن بريطانيا لم يُكتب دستورها، جاء النص على أن دين الدولة الإسلام في معظم الدول. ولم يكن هذا النص مشكلا بالنسبة لغير المسلمين في البلدان العربية، تماما كما لم تكن العربية مشكلا لغير العرب من أكراد وتركمان وأمازيغ؛ فالإسلام والعروبة مكونان أساسيان لهوية المنطقة، وهما يمثلان القاسم المشترك الأعظم لسكانها.

في صناعة الهوية ورأب صدع المجتمعات، يُبحث عن الجامع والمشترك. وعلى هذه البقعة من العالم، المسماة العالم العربي، لا يوجد إنسان إلا وضمن هاتين الدائرتين؛ الإسلام والعروبة. لكن يمكن اختراع عوامل تقسيم وتفجير، داخل المسلمين وداخل المسيحيين وداخل الأكراد وداخل الأمازيغ. لا أنسى تونسيا من حزب العمال الشيوعي قال لي: نحن لسنا عربا ولا مسلمين؛ الاستعمار العربي جاء بالإسلام. وعقد مقارنة بين الاستعمار العربي الذي جاء بالإسلام ولم يرحل، والاستعمار الفرنسي الذي جاء بالعلمانية ورحل. وطبعا، فإن المقارنة لصالح الأخير. 

للعلم، فإن الجابري الذي يعد من أهم المفكرين العرب في القرن العشرين، كان أمازيغيا! وهو ما يذكرنا بكيف خدم الرهبان اللبنانيون اللغة العربية في القرن الماضي، وساهموا في نشر أدبياتها، وألفوا قواميس لها. كان ذلك جزءا من صناعة الهوية التي تربط المسيحي بمحيطه.

في صناعة الحرب الأهلية، تُستخدم العلمانية "مفخخة" تفجر عن بعد. وقد تم إبطال هذه المفخخة في نقاشات الدستور التونسي. في المقابل، وبفضل حزب النور، وضعت الكثير من المفخخات في الدستور المصري أيام حكم مرسي، والتي فُجرت عن بعد، واستخدمت لاستفزاز الأقباط والتيارات الديمقراطية.

العلاقة بين الممارسة والفكر تبادلية؛ في بدايات دولة الاستقلال في سورية، كان على قائمة "الإخوان" في دمشق مسيحي ويهودي. ودستور الاستقلال ساهم فيه بشكل أساسي الدكتور مصطفى السباعي؛ مؤسس "الإخوان" في سورية. أما في عهد الانقلابات العسكرية التي جعلت العلمانية دينا نظريا، فقد مورست أبشع أشكال الطائفية.

قصارى القول؛ قال الفقهاء قديما "لا مشاحة في المصطلح". المهم هو الدولة المدنية وحيادها، وسيادة القانون، تداول السلطة. وهذه الدولة لها هوية تعبر عن الجوامع المشتركة لمواطنيها. وعليه، فإن استبدال المصطلح أفضل من افتعال حروب حوله.
التعليقات (0)