كتاب عربي 21

عودة الحوار الوطني أو استكمال الانقلاب على الثورة

نور الدين العلوي
1300x600
1300x600
تمهيد

برغم الصورة الصادمة للرئيس الجزائري، فإنه يتقدم لحكم الجزائر على كرسي متحرك، ما جعل الجار التونسي يمجد حكمته في التوافق المفضي إلى رئيس/ نظام بصحة جيدة، إلا أني ممن يعتقدون أن الحكمة المزعومة غلاف مؤقت يؤجل التفويت في شرعية الثورة لصالح الانقلاب على مطالبها بنعومة أفعوانية. 

لقد عاد الحوار الوطني التونسي ليلتئم حول مطالب قديمة تجدد هي في ظاهرها استكمال المسار الانتقالي الذي بدأ شكليا بانتخابات 23 أكتوبر 2011، لكنه اتخذ منعرجا حادا في صائفة 2013  بعد الاغتيال السياسي الثاني الذي ذهب بمناضل قومي هو الحاج البراهمي و إيقاف إشغال المجلس الوطني التأسيسي، وتلاقي الفرقاء السياسيين حول طاولة حوار عملت بدعم خارجي على توجيه  المسار خارج الشرعية الانتخابية، لتحل محلها شرعية توافقية يزعم المتوافقون حولها أنها عين الحكمة السياسية.

العودة إلى الشوط  الثاني من الحكمة التونسية الفذة يجتمع الآن حول الأزمة الاقتصادية وتسريع المسار الانتخابي. والجديد في الحوار هو إنشاء لجنة ستسمى لجنة إسناد الحكومة المؤقتة الأخيرة  قبل الانتخابات. ونرى أن التسميات الإخوانية لجدول أعمال الحوار تخفي خلف اللفظ التوافقي عملية استكمال  الانقلاب الناعم و عينها على الانقلاب العسكري المصري تستمد منه العون لترهيب الخصم الإسلامي دون أن تفحش في تسميته.

تقديم  معضلة الاقتصاد على الطاولة

كشفت حكومة المهدي  جمعة أن البلد  يقف على حافة الهاوية الاقتصادية ودار حديث عن احتمالات الافلاس والعجز عن دفع الرواتب و أُكْبِرَت نتائج زيارات الاستجداء التي قام بها رئيس الحكومة إلى بلدان الخليج و الولايات المتحدة.

ولكن خطاب تشخيص الأزمة وقف عند التوصيف  الكمي لمظاهرها دون أن يمر إلى ذكر أسبابها لأن البحث في الأسباب كان سينتهي موضوعيا إلى تحميل المسؤولية للنقابة القوية التي قادت حركة احتجاجية  ضد حكومة الترويكا بما وضع الحكومة بين الرفض وانخرام النظام وسيادة الفوضى أو الاستجابة الذليلة دون توافق بين  نسب زيادات الأجور ونسب النمو الاقتصادي بما رفع حجم الانفاق العمومي إلى درجة وضعت الدولة في مواجهة الفشل.

انجلاء مسؤوليات الأطراف في الأزمة جعل النقابة الراعية للحوار  في موقع المتهم لذلك دعت الى الحوار واضعة  حل الازمة الاقتصادية كأولية يشترك فيها الجميع دون العودة الى تحميل المسؤوليات بما ينقذها أولا  من تبعات نضالاتها السابقة.

فضلا على أن التأكيد على أولوية حل الأزمة  قد يبرر (يسمح) بتأجيل التفاوض حول الزيادات الدورية  في القطاع الخاص أو تخفيضها إلى حدودها الدنيا وقد حل أجلها بما يدعم التحالف بين القيادة النقابية  و نقابة الأعراف التي تتلدد رغم المناخ الديمقراطي  في انجاز مؤتمرها وهو تأجيل يخدم مصلحة النقابتين المتواطئتين على حكومة التروكيا في مرحلة أولى  وضد المطلب الاجتماعي للثورة منذ البداية.

التسريع بالانتخابات  

المطلب الثاني الموضوع على الطاولة هو التسريع بنسق الاعداد للانتخابات التشريعية التي ستنهي نظريا المرحلة الانتقالية. والطبقة  السياسية  متفقة إعلاميا على ذلك خارج الطاولة لكن وضعه كأولوية ثانية يبدو كعلامة على حسن النية  تجاه خارطة الطريق في صيغتها الاولى (جانفي 2014) غير ان ذلك لا يبدو جديا تماما.

لأن مسار الاحتجاج الاجتماعي مازال متواصلا  رغم  إعلان معارضة القيادة النقابية له.(بما يجعل النقابة  تشتغل على خطين متناقضين  التظاهر بالتفاوض والعمل على تعطيل مسار الاستقرار خاصة في منطقة المناجم).

وقد زادت الأحكام القضائية العسكرية الصادرة على المتهمين بقتل الشهداء اثناء الثورة (القيادة الامنية لنظام المخلوع) في تعكير الجو المحيط بخطاب التسريع بالانتخابات فالطبقة السياسية بما فيها المتحاورون تبدو مرتبكة ازاء الملف بعضها يلح على استقلال القضاء وبعضها يتمسك بحق الشهداء وأهاليهم في الانصاف. ولا يبدو أن الملف سيوضع على طاولة الحوار لأنه سيفجرها نهائيا.ففرقاء الحوار  مختلفون بشكل  جذري حول الملف.

لجنة إسناد الحكومة

بدعة الحوار الجديدة هي الدعوة الى انشاء لجنة موازية للحكومة ظاهر عملها هو اقتراح حلول للمسائل الخلافية و باطنها الإملاء على الحكومة طبقا لمطالب فرقاء الحوار.

سترحل المسائل الخلافية الى هذه اللجنة لتشتغل كحكومة موازية لا تمتلك إلا شرعية محدثيها وتتجاوز بشكل كلي كل رقابة على الحكومة من قبل المجلس التشريعي (التأسيسي) الذي افرغ من كل سلطة إلا اعتبارا شكليا وما يعطي هذه اللجنة سلطة أقوى من المجلس هو أن الحزب الأكبر حجما أي حزب النهضة متواطئ ضد نفسه خشية من التهديد الخارجي والداخلي بالحالة المصرية.

فقد رمي حزب النهضة برعاية الارهاب و التغاضي عن دور السلفية الجهادية التي جلبت الارهاب ولم يتم دحض الشبهة والقبول بهذا الطرف كطرف شرعي رغم ثقله في الشارع. وقد وجد نفسه منذ الاغتيال الثاني بين مطرقة الانقلاب العسكري  وسندان التنصل من رعاية الارهاب ووضع أمام  حتمية تصفية نفسه من الادارة والتراجع الى حزب بالون منفوخ بالخوف والانتظار.

ونعتقد أن لجنة اسناد الحكومة ستتولى متابعة عناصره  وإقصائها من المواقع الادارية التي  سرقتها (هكذا) من الدولة وهو المطلب  الأول والأهم للحوار الوطني فأطراف الحوار  تتعامل  مع هذا الحزب كعنصر دخيل في مشهد الدولة  السليمة. 

تفريغ الثورة من مطلبها الاجتماعي

كان كل الأطراف في الداخل متفقين على أن مطلب الثورة الأساسي  هو مطلب الحرية  ومطلب العدالة الاجتماعية متمثلا في القضاء على الفوارق الجهوية  بوضع منوال تنمية يشرع في تنفيذه  عاجلا ويعمل على علاج هذه الفوارق الجهوية  وحل معضلة البطالة الهيكلية. لكن مسار الأحداث ذهب الى الجهة المعاكسة.

فالنضال النقابي  انتهى  بالرفع في رواتب القطاع العام المستقر وخاصة العليا منها بينما حجمت الزيادات أو انعدمت في فئات الأجور الدنيا وخاصة في القطاع الخاص والآن يعمل الحوار الوطني على حل المعضلة الاقتصادية  بتقليص النفقات العمومية في الأجور بما يعني ايقاف الزيادات و الانتداب في القطاع العمومي. دون أن يتحمل القطاع الخاص عبء المشاركة في ذلك بحجة دفع الاستثمار لحل الازمة لكن في تاريخ غير معلوم.

وقد تبين ذلك من التهرب من التفاعل الرسمي  والحزبي (المدني) مع احتجاجات الجنوب الشرقي المطالبة  بالتنمية. فالجميع يقر علنا بشرعية المطالب ولكن يزعم ان الظرف لم يعد مواتيا. انها عملية  ترحيل علنية للمطلب الاساسي للثورة. 

إلى جانب ذلك بدأت تظهر ممارسات قامعة لحرية التعبير بتصيد المدونين ومحاكمتهم على ما يكتبون وأحيانا تلفيق  تهم كيدية  لترهيب الخطاب الافتراضي المتحرر من رقابة طال امدها. لقد عادت جرائم النشر وعاد القضاء يحاسب على النوايا. وهو التهديد الاهم لمكتسبات الثورة الى حد الان.

ماذا سيبقى من الثورة لكي تنجز انتخابات ذات مضمون؟ 

سينتهي الحوار رغم التشاؤم الذي ذكرت أعلاه إلى تمهيد طريق إلى انتخابات وربما يفلح في احترام الأجل المحدد بالدستور الجديد (نهاية 2014). لكن من سيفوز فيها ؟. 

نعتقد أن الثورة لن تكون الفائزة وأعني أن مطالب الثورة في التنمية لن يحققها الفائزون مهما كان لونهم .

بل أن شروط وجودهم السياسي مرتهن بالتخلي عنها لصالح الطبقة المتنفذة اقتصاديا والتي اسندت النظام السابق وعملت في مناخ غير ديمقراطي(فساد مطلق) على بناء ثرواتها ولم تحاسبها الثورة وما كان للثوريين  في ظل الوضع الحالي أن يطمحوا إلى أكثر من العيش في كنفها حامدين الله على الفوز من الغنيمة الثورية بالبقاء على قيد الحياة.

ثورة الفقراء ستفرغ بالحوار الوطني الذي ترعاه نقابات الأعراف والعمال المتواطئة معها من مطالبها وسترحل المطالب إلى أجل  غير مسمى يظل مرهونا بتحسن شروط اقتصاد مناولة لا يعمل على تغيير نفسه لعجز هيكلي في أسسه الأولى.

يميل البعض إلى الإيمان بالزمن قائلين بأن الدوام (الصبر على المرحلة ) سينتهي بثقب الرخام (طبقة راس المال) لكن ذلك يبدو كتعزية جيدة في اللحظة ربما يفلح في إقناع الأنصار المتحرقين للعدل بالصبر لكنه لن يحل المشكل.

يقول بعض الثائرين بعد أن  الثورة الثانية تتهيأ  لكن معضلة الشارع التونسي أن الحزب الأقدر على تحريك الشارع مرعوب من تاريخ مجازره وهو يعمل  على انقاذ جسده من محرقة ثانية وعينه على مصر الانقلاب.

لذلك فإن الحوار الوطني العائد مدعوما بالانقلاب المصري وسنده الدولي جر الاحزاب المناصرة للثورة  إلى لعبته المفضلة والتي يملك ادواتها  كأفضل ما يكون  ليكمل بها مهمة الإجهاز على الثورة بنعومة لم يحتج فيها إلى تحريك آلة عسكرية.

وهو يكشف مرة أخرى معضلة السياسة في تونس التي ظلت باستمرار تنظم الشأن العام من داخل الدائرة السياسة الضيقة  المنقطعة عن شارعها.

نظام يهندس المجتمع بنص ولا يملك ما يكفي من الخيال الثوري ليبني نظاما اجتماعيا عادلا ولو بالحد الأدنى داخل سياق ليبرالي.

الامل الاخير  يبقى مرة اخرى في ردة فعل شارع  ثوري  بلا قيادة ثورية كما كان الحال  في 17 ديسمبر. فقد صفى النظام القديم بأسلوبه ما كان سابقا معارضة ذات برنامج.
التعليقات (0)