كتاب عربي 21

وتبقى الديمقراطية الطريق الأقل سوءا

طارق الكحلاوي
1300x600
1300x600
"الديمقراطية هي أسوأ اشكال الحكم باستثناء أشكال الحكم الأخرى التي تم تجريبها"
تشرشل، خطاب أمام مجلس العموم، تشرين الثاني/ نوفمبر 1947

إلى زمن الثورات العربية كانت أحد المسائل التي تناقش بجدية في أوساط العلوم السياسية مقولة "الاستثناء الديمقراطي العربي".
فحتى الموجة الرابعة من الديمقراطيات، بعد انهيار جدار برلين، بقيت الحالة الاستبدادية الحالة الطاغية عربيا.

أطاح "الربيع العربي" بجدية النقاش العلمي، لكن استتباعاته وعثراته لم تطح بجذابية هذه المقولة لدى بعض مستشرقي الداخل.
من الشعبوية المحبذة الآن الرجوع إلى كل ما يشير إلى الندم من هذه "المعاناة غير الناجعة"، والتي تسمى ديمقراطية.

في تونس، مثلا، كل الدعوات التي تطلب حل المجلس التأسيسي، المؤسسة الوحيدة المنتخبة، ولتجد لها صيغة بديلة منصبة من فوق خارج سياق الانتخابات، هي تعبيرات سياسية للمقولة الأساسية التي تؤسس لنظرية "الاستثناء الديمقراطي العربي".

وعندما يرغب البعض في تصور "حكومة تكنوقراط" وأيضا "محررة" من "سطوة التشريعي" إنما لا يتصور سوى طغيانا بربطة عنق وديبلوم تعليم عالي منمقا من الخارج، ولا يستطيع أن ينطق بالعربية، على أساس أن ذلك ميزة تثقف وأناقة فكرية. 

لنلق نظرة بهدوء الآن إلى حصيلة الثورات العربية، فيما يخص مسألة الديمقراطية والاستبداد.

قرر بشار الأسد الوقوف بعناد وشراسة دموية لافتة أمام أي محاولات جدية لتعبيد الطريق أمام الاختيار الحر لشعبه.
أصر على التشبث بدستور يمنح حق السياسة لحزب البعث وحده. وأصر على أن قطع الحنجرة هو الرد الطبيعي والعملي على المطالبة بحق التعبير وممارسته.

من الغباء، وأكثر من ذلك من سوء النية الفاضح، مجرد التفكير في أن استدراج سوريا إلى حالة الدمار الطائفي وسيادة التعبيرات "السلفية الجهادية"، وما تعنيه آليا من امتصاص لجذوة الثورة في بوتقة استبداد جديد يدمر ذاته بذاته، ليس له علاقة بالإصرار على الرفض القطعي للديمقراطية. 

استبداد يستدعي استبدادا، ووسط ذلك تاه صوت الحرية الذي أيقظ سوريا ذات ربيع سنة 2011.
وفي جوان القادم يعتقد حاكم دمشق وبعض ضواحيها وبضعة مدن أخرى في الطريق إلى الحدود التركية، والتي لا يوجد فيها بعد المجازر المتبادلة لانغماسيي "داعش" و"النصرة"، أنه بمجرد نشر صناديق اقتراع وضرب الطبل ونشر الكاميرات وأصوات المؤيديين المتحمسين على خلفية كل ذلك، يعتقد أنه يصنع ديمقراطيته المناسبة والوحيدة التي يمكن أن تقبل بها سوريا.

فالوهم أنواع، بعضه براق وجميل ويستحق التأمل، وبعضه الآخر مضمخ بالدماء مؤلم بلا نهاية، ويبعث على النفور الأقصى. 

في مصر، ما من شك يحظى السيسي بموجة إسناد فرعونية تعتقد أن سطوة الدولة المركزية التاريخية في مصر بقبعة عسكرية هي الخلاص الأوحد.

مصر في حالة تخمر، تستبدل فيها فوضى وحيرة التأسيس للديمقراطية بالراحة الوهمية والزائفة للأب العسكري منتفخ الصدر قصير القامة القادر على خلق المعجزات، بما في ذلك بل وعلى وجه الخصوص آلة معالجة الإيدز.

ما لن يريد أن يراه المتخمرون آلاف القتلى على مدى أشهر الآن وبنسق يومي.
هذا الاستقرار الدموي هو السراب الذي يتشبث به من يستبدل الرمضاء بالنار، من ليبراليين وقوميين ويساريين وسلفيين، وبقية العشائر الأيديلوجية.

لن يسأل أحد من هؤلاء، وإلا سيستفيق من حالة الغفوة الممتعة هذه، إن كان من الممكن أن تتحمل مسؤولية ميزانية أكثر من تسعين مليون مصري الأموال المتدفقة من بعض الإمارات والممالك، مهما بلغ كرهها للإخوان، وتدفق في شرايينها البترول. 

يسعى البعض في مصر إلى اجترار الماضي لتقديم حلول للمستقبل. يعتقد هؤلاء أن خطأ مبارك الوحيد أنه لم يكن ديكتاتوريا وعسكريا بما فيه الكفاية.
وأنه كان مهتما بتلميع حذائه البورجوازي عوض الحفاظ على "البيادة". إن خطأه أنه لم يكن فرعونيا بما فيه الكفاية، وحازما غليظا جلفا بما فيه الكفاية. كان جلفا لكن ليس بما فيه الكفاية. وعلى هذا الأساس يعود بخطى ثقيلة من جديد ليغتصب العقول عبر من يسترزقون في الجهلوت بوصفه حكيما خارج زمانه.

"الريس" كان حكيما لكن لم يفهمه الآخرون، وخاصة شعبه الذي كان مغامرا ومتسرعا وغرا. هكذا هي الصورة المفضلة الآن في "دريم" و"الاون تي في" وجريدة "الوطن"، التي فيها صحفيون يستحقون لقب أفضل رواة الزمن الجديد.  

مصر الآن كاريكاتور مضخم. يغطس عميقا في الأدران ويلقي الدروس في الآن نفسه. من يمكن له مثلا أن يحسد حمدين صباحي. الجميع وقبل الجميع حمدين نفسه يعرف أنه سيحصل على النسبة المئوية التي سيقررها المشير ذات صباح بعد الانتخابات. وفقا لمزاجه ووفقا  لفطور الصباح المخفف الذي سيتناوله، بعد حصة الجري والسباحة.

من يستطيع أن يكون في مكان حمدين؟، وهو يعدد الاحتمالات: هل ستكون النسبة في حدود مقبولة من الإذلال يا ترى؟ أليس من المحتمل أن يكون المشير عقلانيا، ولا يمنح لنفسه نسبة تسعينية؟ لما لا نتفق بشكل مسبق ويقرر المشير النسبة المئوية بناء على الأقل على وسامة حمدين وقدرته على التأنق؟ ألا يسمح ذلك وحده بأصوات إضافية؟ من يستطيع أن يكون مكان حمدين، وهو ينهض متثاقلا كل صباح مستعدا للحملة الانتخابية، وهو يعلم مسبقا أن لا النهوض ولا الجري ولا الخطب ولا الهتاف، ولا التأنق سيصنع أصواتا في صندوق الاقتراع.

وحده المشير سيقرر ذات صباح. وقبل كل ذلك وبعده لما الإصرار على أن يكون حمدين وحده أمام آلة الفرم التي يسوقها المشير. في نهاية الأمر ذلك تشريف ليس بعده تشريف. المشير اختار حمدين دون الآخرين ليكون خصمه. أليس ذلك هو الوسام الحقيقي ولا تهم بعده النسبة المئوية؟ لا أحد يستطيع، بلا أي أدنى شك، أن يكون مكان حمدين. 

الديمقراطية معاناة. متعبة. لا تجري فيها الرياح بما تشتهي السفن والرغبات. تجري فيها الرياح بناء على قواعد الضغط والشد وليس الشهوة. وذلك تحديدا قوتها. خضوع لميزان قوى مبني على الاختبار المنظم والمنهجي والمتواتر لعموم الناس. ليس ذلك براقا وسهلا ومريحا. لكن يخضع لسطوة العقل البشري، ومن ثمة يحظى بميزة النفس الطويل. ليست الديمقراطية حفلة عشاء، أو سهرة جميلة، أو أوبيرا بافاروتي. هي شيء يشبه أحيانا الظهيرة في ساحة قرية نائية ذات صيف. مملة إلى حد كبير. يبقى أن كل البدائل الأخرى فاشلة ببساطة. غير ممكنة وإضاعة للوقت. 

نعيش الآن في تونس شيئا مماثلا. آلة معقدة تتقدم ببطء. نعيش حالة حيرة ولا نعرف بعد إن كنا سنصل إلى بر الأمان. لكننا، حتى لو لم يعرف البعض منا ذلك لأنه يركب القطار ولا يشاهده من خارجه، فإننا نتقدم إلى الأمام ولو بكثير من التلعثم والتردد، لا نعيش كاريكاتورا وبصدد صناعة التاريخ.

ورغم ذلك يريد بعض المسكونين بنوستالجيا "الاستقرار" الآسن لنظام بن علي جرنا إلى أيام الحاكم الأوحد "المنقذ"، والذي لا يحتاج إلى انتخابات أو في أحسن الأحوال ربما يقبل بانتخابات مرتبة على المقاس.

ورغم ذلك لا نعتقد أن تونس هي "الاستثناء الذي يؤكد القاعدة". والقاعدة هنا هي "الاستثناء الديمقراطي العربي". تونس ربما طليعية ولكنها لن تكون وحيدة، بل لن تستطيع أن تكون ديمقراطيتها مستديمة خارج محيطها العربي. 
التعليقات (0)