مقالات مختارة

صفوي على المتوسط وأوباما يحارب.. بوجبات ومناظير!

جورج سمعان
1300x600
1300x600
كتب جورج سمعان: لم يكشف الفريق يحيى رحيم صفوي، القائد السابق لـ «الحرس الثوري» والمستشار العسكري للمرشد علي خامنئي سراً. حدود إيران الغربية لا تقف عند شلمجة (غرب الأهواز)، بل تصل إلى جنوب لبنان. وهذه المرة الثالثة التي يبلغ نفوذها سواحل البحر الأبيض المتوسط. كما قال في إشارة إلى حدود الامبراطوريتين الأخمينية والساسانية اللتين تجاوزتا بلاد الشام إلى مصر الفرعونية.

وكذلك لم يكشف جديداً زميله معاون وزير الخارجية حسين عبد اللهيان عندما نفى تدخل بلاده في الشؤون الداخلية للعراق. «لها فقط نفوذ معنوي في المنطقة ومنها العراق». وردّ هذا النفوذ إلى ما سمّاه «المشتركات التاريخية والثقافية والدينية والعقائدية» و «عاملي التاريخ والجغرافيا». وهي المشتركات نفسها التي دفعت سيد الكرملين إلى ضم القرم إلى الاتحاد الروسي. وقد تدفعه مستقبلاً إلى أماكن أخرى.

 لا حاجة إلى استحضار التاريخ القديم، يوم كانت المنطقة العربية محل نزاع دائم بين البيزنطيين والفرس، وقبل ذلك بين هؤلاء ومصر الفرعونية. يكفي النظر إلى التاريخ الحديث. من مطالع القرن الماضي إلى هذه الأيام. بعد سقوط السلطنة العثمانية في الحرب الكونية الأولى خذلت بريطانيا وفرنسا العرب. خرجوا من عباءة تركيا إلى مظلة هاتين الدولتين الاستعماريتين اللتين نكثتا بوعودهما بإعطائهم استقلالهم. وكان عليهم أن ينتظروا نهاية الحرب العالمية الثانية لتحقيق هذا الحلم. لكن نشوب الحرب الباردة أعاد المنطقة بما تختزن من ثروات طبيعية وموقع جيواستراتيجي إلى قلب الصراع ودائرة الاستقطاب بين الجبارين اللذين ورثا الاستعمار القديم. وانقسم العرب بين القطبين الدوليين. وقامت إسرائيل على أرض فلسطين وتحولت عنصراً أساسياً من عناصر استراتيجية الولايات المتحدة ومصالحها الحيوية في المنطقة. واستحال على العرب تالياً بناء نظام أمن قومي عربي ثابت ومتماسك، بعيداً من حضور القوى الكبرى الدولية والإقليمية. وظلت جامعتهم دون القدرة على مواجهة التحديات التي واجهت هذا النظام الهش، منذ اندلاع الصراع السياسي بين دعاة القومية رافعة للنظام العربي ودعاة إحياء الرابطة الاسلامية الأعم والأشمل، إلى حين قيام «الثورة الإسلامية» في إيران فحرب الخليج الأولى ثم غزو العراق الكويت وما تلى ذلك من تداعيات لم تتوقف إلى اليوم.

 فتحت إيران منذ أشهر صفحة جديدة في التعامل مع الولايات المتحدة وتسعى إلى التهدئة مع جيرانها الأقربين. لكن هذا الانفتاح لم يرقَ بعد إلى مراجعة الاستراتيجية العامة للجمهورية التي دأبت على بنائها طوال ثلاثة عقود. في البدايات لم ينجح شعار «تصدير الثورة». لكن التمدد عبر جماعات محلية ترتبط معها مذهبياً وعقائدياً وفر لها طوال سنوات الحضور في طول العالم العربي وعرضه. واليوم تخوض النخب السياسية في الداخل صراعاً سياسياً حول الدور المقبل لهذه «الامبراطورية».

النقد الذي توجهه قوى محافظة ومؤسسات عسكرية وأمنية إلى الرئيس حسن روحاني وحكومته لا يتوقف. وحملة الدفاع عن سياسة الانفتاح التي يخوضها المعتدلون، من هاشمي رفسنجاني ومحمد خاتمي إلى الرئيس روحاني ماضية في التصدي. لكن هذا الصراع يظل مضبوطاً تحت سلطة المرشد ومواقفه النهائية.

 ولا شك في أن التوصل إلى تسوية للملف النووي مع الستة الكبار قد لا يكون كافياً لعودة إيران إلى أداء دورها في النظام الدولي. لا بد من أن يستكمل الحوار بينها وبين أميركا خصوصاً ليشمل القضايا السياسية وعلى رأسها دور طهران ونفوذها وحضورها في الشرق الأوسط. وثمة فريق في الجمهورية يقيم اعتباراً للديبلوماسية في هذا المجال. هذا ما عبر عنه أخيراً وزير الخارجية محمد جواد ظريف في مقالة صحافية. وهناك فريق آخر يرى إلى الاقتصاد مهمة أولى للسياسة الخارجية لإيمانه بأن العالم يولي أهمية قصوي للتنمية الاقتصادية عنصر التنافس الأول في المجتمع الدولي.

 لا يمكن بالطبع أن تتجاهل الولايات المتحدة نفوذ إيران ودورها السياسي والأمني في «الشرق الأوسط الكبير». وهو عماد استراتيجيتها التي قد تزداد تمسكاً بها. فالأزمة الأوكرانية وضعف الرد الأميركي والأوروبي على موقف روسيا دفعا بعض القوى في طهران إلى التشدد في هذا المجال مع واشنطن ما دام أنها أظهرت ضعفاً بيناً في مواجهة السياسة الهجومية للرئيس فلاديمير بوتين.

واكتفى الرئيس باراك أوباما حتى الآن بمساعدة كييف بوجبات طعام لقواتها المسلحة وأسلاك شائكة ومناظير! واكتفى، في الجبهة الأخرى، بإهداء رئيس «الائتلاف الوطني» السوري المعارض الذي يزور واشنطن هذه الأيام اعترافاً بمقرات الائتلاف «بعثات ديبلوماسية»، وكان قدم سابقاً مساعدات إنسانية وأسلحة خفيفة ومناظير لمراقبة تقدم قوات النظام ليلاً بعد النهار! في حين أن السيد أحمد الجربا وزملاءه العسكر يريدون سلاحاً فعالاً يقيم توازناً ميدانياً على الأقل مع النظام الذي فتحت له روسيا أبواب ترساناتها، ومدّته إيران بكل ما يحتاج إليه من عدة وعتاد وعديد من مختلف الجنسيات!

 لا جدال في أن إيران وجدت وستجد في الانكفاء الأميركي عن المنطقة فرصة لملء الفراغ الذي سينجم عنه. وهي بدأت ذلك بالفعل في العراق وستفعل مثله في أفغانستان. وباتت اليوم صاحبة الكلمة الأولى في سورية، لانشغال موسكو بأزمة القرم التي رفعت عراقيل في وجه مشروعها للتكامل الأوروآسيوي. يعني ذلك أن الولايات المتحدة ستكون أمام مساومة صعبة لإقناع الجمهورية الإسلامية بوجوب إعادة تطبيع علاقاتها مع جيرانها العرب والخليجيين خصوصاً. يستدعي التطبيع تنازلات سواء في سورية أو العراق أو لبنان، وحتى في اليمن حيث الجيش يقود حملة لاقتلاع «القاعدة»... لكنه سيكون قاصراً عن الوقوف في وجه الحوثيين الحاضرين ليس في الشمال فحسب، بل في قلب العاصمة صنعاء عبر المناصرين والمؤيدين والعائدين إلى صفوف المذهب!

 تنقية الأجواء بين إيران وجيرانها لا يخدم أهداف أميركا وحلفائها فحسب، بل يخدم أيضاً مصالح طهران وتوجهاتها الجديدة للتحول عنصراً فاعلاً في النظام الإقليمي والدولي. لن يكون في مقدور «امبراطورية» الفريق صفوي إدارة هذه المناطق الممتدة من كابول إلى المتوسط. هو يعرف بلا شك مدى الحاجة إلى كتلة اقتصادية كبيرة لا بد منها رافعة لهذه التوسعات والطموحات. ويعرف قبل هذا أن من أسباب اختيار الإيرانيين والمرشد للشيخ روحاني خليفة لمحمود أحمدي نجاد هو اقتراب البلاد من حافة الانهيار الاقتصادي الشامل. وأن التأييد الذي يحظى به رئيس الجمهورية وحكومته من جانب المرشد هدفه السعي إلى فك الحصار عن البلاد وإلا تعرض النظام برمته لتهديد غير مسبوق. وحتى رفع العقوبات قد لا يكون كافياً إذا تواصل الاستنزاف الذي تتعرض له «القوة» الإيرانية، في العراق وسورية ولبنان. وهنا تبقى التجربة السوفياتية خير مثال عن فشل نموذج التوسع الامبراطوري خارج الحدود فيما الداخل يفتقر إلى ركيزة اقتصادية متنوعة توفر الحد الأدنى من مقومات الصمود. أليس هذا ما يعوق اليوم طموحات بوتين وأحلامه؟ فماذا تفعل طهران وموسكو إذا تراجعت أسعار الوقود في العالم؟

 ليس ما يشير إلى أن الكماشة الإيرانية قادرة إلى ما لا نهاية على إخضاع الكتلتين السنيتين العراقية والسورية، وحصرهما في الصحراء من حمص إلى الأنبار. لأن ذلك ضد منطق التاريخ والديموغرافيا خصوصاً، لئلا نتحدث عن التوازن الديموغرافي المهدد في أي لحظة في لبنان حيث باتت الكتلة السنية في هذا البلد تتجاوز نصف تعداد سكانه، بفعل تدفق اللاجئين السوريين، فضلاً عن اللاجئين الفلسطينيين. إن تصاعد الصراع المذهبي، في الإقليم سيترك آثاره المدمرة في المنطقة كلها عابراً كل الحدود. كان جورج شولتز وزير خارجية رونالد ريغان يحذر مطلع الثمانينات من تحول الصراع السياسي في الشرق الأوسط بين العرب وإسرائيل صراعاً دينياً. لكن نبوءته لم تتحقق. ما تحقق صراع بين أصوليات سنية وشيعية، فيما الدولة العبرية تعمل على تصفية ما تبقى من القضية الفلسطينية!

 وإذا لم تنجح واشنطن في التخفيف من الحضور الثقيل لإيران، أو إذا تغاضت عن ذلك في مقابل تسوية مرضية للملف النووي، أو إذا لم تثمر سريعاً نتائج حرب الاستنزاف في سورية، فإن الأوضاع في بلاد الشام مرشحة لحروب وقلاقل طويلة. فلا «أصدقاء» الشعب السوري ومعارضته قادرون على تعديل ميزان القوى، ولا الدول الإقليمية الكبرى تبدو إلى الآن قادرة على رفع التحدي في وجه الجمهورية الإسلامية. تركيا التي اختارت السياسة الناعمة مع جيرانها تشغلها صراعاتها السياسية الداخلية.

ومثلها مصر التي سيطول نهوضها للعودة لاعباً وازناً في الإقليم وفي النظام العربي... فيما جموع الجهاديين تفيض عن العراق وسورية واليمن إلى شبه الجزيرة العربية التي قد تنتظر الترياق من... باكستان هذه المرة وليس من العراق.


(الحياة اللندنية)
التعليقات (0)