كتاب عربي 21

الهيروين حوّل زوجين إلى خروفين

جعفر عباس
1300x600
1300x600
رغم مرور عدة سنوات على هذه الواقعة، إلا أنها ظلت عالقة بذاكرتي، وما زلت احتفظ بالقصاصة الصحفية التي تحمل تفاصيلها، وتتلخص في عثور الشرطة على جثة طفل رضيع في ثلاجة، واتضح أن كل حصة الطفل من الدنيا كانت سبعة أيام، ولما مات تم وضعه داخل الثلاجة، ربما للنظر في أمر دفنه في اليوم التالي أو "لما ربنا يسهل!!"، وعندما اكتشفت الشرطة الأردنية جثة الرضيع، وجدت في نفس الثلاجة طعاما نتناً لا يصلح حتى للحشرات، لأنه كان قد تحول إلى يرقات وديدان، وعثرت على بعض الهيروين.

واتضح أن الزوج والزوجة عاطلان عن العمل ومدمنان للمخدرات (انتبه إلى أنني لم أقل الأب والأم لأنهما لقبان عزيزان وغاليا الثمن ولا يستحقهما الإنسان فقط لأسباب بيولوجية)، ويبدو أن الطفل توفي لسبب أو لآخر، فوضعاه في الثلاجة وتناولا جرعة من الهيروين وانتقلا إلى عالم الانبساط الوهمي المخدرات أشكال وألوان، وبعضها لا يسبب الإدمان الذي يجعل من يتعرض للحرمان من الجرعة المطلوبة عصبيا أو عدوانيا أو حتى عرضة لنزف الدم والقيء والإصابة بتشنجات عصيبة، فبإمكان مستخدم الحشيش والبانقو التوقف عن تعاطيهما دون ان يصاب بنكسة صحية في جسده أو عقله، فهاتان المادتان وبقية المواد من فصيلة الكنابيس cannabis تؤديان إلى ما يسمى الاعتياد، وهو بلغة الفرنجة habituation أو dependency ثم الإدمان النفسي.

يعني من يتعاطاها يحسب أنه لن يستطيع العيش لو توقف عن التعاطي، ولكنه يستطيع ان يقلع عنها بقدر قليل من المعاناة النفسية، ولا أقول هذا الكلام من باب التهوين من خطر تعاطي أي مادة مخدرة تؤثر على العقل والتفكير، بل لتوصيل رسالة للحشاش مفادها أنه بإمكانه التوقف فورا عن التعاطي ولن يؤدي ذلك الى تعرضه لفشل كلوي أو نوبة قلبية أو بواسير، وعلى صعيد التجربة الشخصية فقد كنت مدمنا للسجائر، وصولا إلى تدخين ستين سيجارة في اليوم (خاصة بعد حصولي على عمل في منطقة الخليج حيث انعتقت من السجائر السوداني المحلي الذي جعل صدري مثل آلة الأكورديون وصرت قادرا على شراء التبغ الفرجيني الفاخر)، وأحيانا وعندما أشعر بالنعاس كنت أتفقد مخزوني من السجائر، وإذا اكتشفت في الثانية صباحا أنني لا أملك سجائر يكفيني طوال اليوم التالي، أغادر البيت وأظل أفتش على متجر مفتوح اشتري منه مؤونتي من السجائر.

ولم أكن عادة أدخن في مثل ذلك الوقت من الليل، ولكن الإدمان النفسي كان يجعلني لا أحس بالطمأنينة ما لم يكن السجائر موجودا حولي بكميات تكفيني ليوم كامل على الأقل، وفكرت جديّا في الإقلاع عن التدخين رغم ما قيل عن أن هجر التبغ يسبب ارتفاع ضغط الدم والتهاب القولون والبروستات والجيوب الأنفية (لا يحدثك مدمن التبغ عن تأثيره على الجيوب "الملابسية" حيث يتم حفظ النقود) وجربت جميع الأفلام الهندية للإقلاع عن التدخين: سجائر قليلة النيكوتين.. سجائر بالفانيليا وأخرى بالبشاميل.. أدخن نصف الكمية المعتادة.

وكانت جميعها محاولات فاشلة، وذات يوم اكتشفت ان عندي نحو 120 سيجارة موزعة على 6 علب وألقيت بها أرضا وهرستها وزوجتي تزغرد وولدي يهتف: الله أكبر، وهكذا طلقت التدخين طلاقا بائنا بينونة كبرى، ولم أمت نتيجة لذلك ولم تتعرض صحتي للتدهور (بل زاد وزني نحو 10 كيلوغرامات في شهرين لأن السجائر يسد النفس والشهية، والتوقف عنه يفعل العكس)صاحبنا الأردني وحرمه (تحرم عيشتهم) كانا من فصيلة أقرع ونزهي، وتقال عن بائس الحال الذي يتصرف كما عدنان خاشقجي في زمانه أي شبعان وجيبه مليان، ويلعب بالدينار والدولار الرنان، فقد اختارا الهيروين وهو أغلى أنواع المخدرات سعرا، وأفدحها أثرا على الجسم والعقل، وبسبب الهيروين فقدا الإحساس بالحزن لوفاة طفلهما، وأكاد أجزم أنهما نسيا أن لديهما مولودا فمات المسكين جوعا وعطشا، وفقدا الإحساس بالواجب بالتحرك لدفنه، فوضعاه في ثلاجة مع بواقي الطعام كي لا تفوتهما الجرعة التالية، وهذه الجرعة وما يليها تتسبب في تفويت العقل، وهكذا نسيا أمر الطفل المتوفى، أي أن الهيرويين حولهما إلى خروفين.

استغفر الله فالنعاج لا تفرط في ذريتها حتى تصبح قادرة على الأكل والشرب ولا يختلف هذان الخروفان عن أي أب أو أم يبخلان على صغارهما حتى بالقوت الضروري لضمان توفر "حق السجائر" أو حتى القهوة أو فستان السهرة.
التعليقات (0)