كتاب عربي 21

دولة البغدادي تتمدد على أنغام جمهورية الملالي

حسن أبو هنية
1300x600
1300x600
لا تمل قوى المعارضة السياسية السورية ولا المسلحة من القول بأن تنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام "داعش" هو من صنيعة نظام الملالي في إيران وحليفه الأسد في سوريا، إلا أن الأدلة المقدمة لا تعدو عن كونها خطابية بلاغية غير مقنعة، فالمعادلة بين إيران وداعش على درجة عالية من البساطة حد التعقيد، وتقوم على أساس تحالف موضوعي يحقق كلاهما مصالحه دون الحاجة لعقد اتفاقيات مباشرة ولا دعم منظور.  

وإذا كانت علاقة تنظيم القاعدة المركزي بإيران ملتبسة تاريخيا، فإن علاقة الفرع العراقي منذ تأسيسه على يد الزرقاوي كانت حاسمة ولا تقبل الجدل في عدائها لإيران، فالأساس الهوياتي الطائفي حكم العلاقة وحدد وجهتها، ولعل الخلاف داخل تنظيم القاعدة قد كشف عن صراع حاد حول طبيعة العلاقة مع إيران، فقد اتهم الناطق الرسمي لتنظيم "الدولة الإسلامية في العراق والشام" (داعش) أبو محمد العدناني في 11ايار/ مايو 2014 عبر رسالة صوتية بعنوان "عذرا أمير القاعدة"، قيادة القاعدة المركزية بالانحراف عن المنهج ونسج علاقات مشبوهة مع إيران، إذ أقر بأن "للقاعدة دين ثمين في عنق إيران"، كما أن تنظيم الدولة (داعش) "لم تضرب في إيران  تلبية لطلب القاعدة .. للحفاظ على مصالحها - أي القاعدة – وخطوط إمدادها".

ما يقوله العدناني لا يبتعد عن الحقيقة، إلا أنه يقتصد في سردها في سياق الصراع على تمثيل واحتكار "القاعدة" كعلامة رائجة لكسب الأتباع والأنصار، فالحقيقة تتمثل باستثمار إيران لكلا الطرفين في تثبيت نفسها كقوة إقليمية، فقد عمدت إيران على رسم استراتيجية في سوريا تقوم على التخلص من المعارضة السنيّة المسلحة المعتدلة وعدم التعرض لدولة البغدادي، عبر محاصرة حركات المعارضة المسلحة  ووضعها بين مطرقة مليشيات الأسد ومليشيات داعش.

إيران تتطلع إلى تحقيق مصالحها القومية في المقام الأول فعلى الرغم من تبنيها هوية إيديولوجية دينية شيعية، إلا أن محركات سياساتها الخارجية تتسم بنزعة براغماتية فجة، فالغموض الظاهر حول الأهداف الحقيقية للمشروع الإيراني في المنطقة يتكشف من خلال سياساتها وتحالفاتها، فالعلاقة مع تنظيم القاعدة المركزي تحكمه المصالح السياسية وليس المبادئ الإيديولوجية، فالإطار الجامع بين القاعدة وإيران برز بوضوح عقب الإعلان عن تأسيس "الجبهة الإسلامية العالمية  لقتال اليهود والصليبيين" عام 1998، وفي المقابل طورت السلفية الجهادية وممثلها تنظيم القاعدة إستراتيجية قتال "العدو البعيد"، وهي اللحظة التي شهدت تقاربا أكثر بين إيران والقاعدة.

لم تكن العلاقة بين إيران والقاعدة على أساس الإيديولوجيا والمبادئ، إنما حددتها الأولويات والمصالح المشتركة فقدكشفت الوثائق التي حصلت عليها القوات الأمريكية من المجمع السكني في أبوت آباد حيث تم اغتيال بن لادن في الثاني من مايو/ آيار2011, عن توتر العلاقة بين القاعدة وإيران، ومنها رسائل من بن لادن لأفراد أسرته وقياداته في إيران, وهو ينفي ما تردد من أن إيران كانت توفر ملاذا آمنا تماما لأفراد القاعدة, وهو ما يمنحنا أيضا ملامح لشكل العلاقة بين الجانبين، وقد أكد مدير السي آي إيه السابق جورج تينت في كتابه "قلب العاصفة" أن الولايات المتحدة عمدت إلى إجراء اتصالات عبر قنوات خلفية لترتيب محادثات سرية مع مسؤولين إيرانيين بخصوص القاعدة, وقال: إن هذه المحادثات السرية بدأت بالفعل في الفترة ما بين ديسمبر2002 وأوائل عام2003, وطالبت خلالها الولايات المتحدة من إيران إما تسليمهم أعضاء القاعدة أو ترحيلهم إلى بلدانهم الأصلية, حيث يمكن محاكمتهم أو تسليمهم من هنا، وبحسب المحلل البارز والضابط السابق في (السي آي إيه)  بروس ريدل فإن "حقيقة نشاط القاعدة في إيران، كان دوماً لغزا" بالنسبة للولايات المتحدة.

العلاقة بين إيران والقاعدة مرت بجملة من التحولات نظرا لوجود تباينات أيديولوجية، وكان الاحتلال الأمريكي للعراق أحد نقاط الخلاف الجوهرية، فقد تزامن التحول في السياسة الإيرانية مع حدوث فرز داخل تنظيم القاعدة حول الموقف من إيران، حيث برز اتجاهان مختلفان: الأول: تبناه القادة الكبار في تنظيم القاعدة، وعلى رأسهم أسامة بن لادن وأيمن الظواهري، وقام على أساس محاولة استمالة إيران للاستفادة من وجودها في العراق لمواجهة الاحتلال الأميركي، باعتباره عدواً مشتركاً للطرفين، وتحاشي مواجهتها التي يمكن أن تنتج تداعيات سلبية على التنظيم، والثاني: تبناه قادة "تنظيم القاعدة في بلاد الرافدين" وعلى رأسهم أبو مصعب الزرقاوي، وقام على أن المشروع الإيراني في العراق لا يقل خطورة عن المشروع الأمريكي.

من المؤكد أن العلاقة بين إيران والقاعدة وصلت حد القطيعة ولم تعد التحالفات التاريخية قائمة، ويبدو أن إيران وجدت في تنظيم "داعش" حليفا موضوعيا على النقيض مما يدعيه الناطق باسم دولة البغدادي فعندما دخلت سوريا آفاق الحراك الثوري منتصف آذار/ مارس 2011، أدركت إيران مبكرا النتائج الكارثية لسقوط حليفها "الأسد"، وآثاره الخطيرة على مستقبل المشروع الإيراني في المنطقة، وبهذا فقد أوكلت مهمة إنقاذ النظام السوري إلى جناح العمليات الخارجية في "الحرس الثوري" المتمثل بـ "فيلق القدس" وقائده قاسم سليماني الذي عمل سريعا على تطبيق استراتيجية التدخل غير المباشر من خلال أذرعها من المليشيات الشيعية المقاتلة كما فعلت في العراق، وعملت على بناء استراتيجية تتماهى مع موضوعة "الحرب على الإرهاب" الأثيرة لدى المجتمع الدولي عموما والولايات المتحدة خصوصا، وذلك بالقضاء على المعارضة المسلحة المعتدلة ودعم الطرف الأكثر تشددا وتطرفا ممثلا بداعش.

 القيادات الإيرانية باتت تتحكم بإدارة المعركة الرئيسية في سوريا، أما الجيش السوري فيقتصر عمله على إدارة العمليات الثانوية، فالحرس الثوري الذي كان يحتفظ قبل الحرب بقوة تقدر بـ  3000 ضابط، بهدف المساعدة في عمليات نقل الأسلحة لحزب الله في لبنان وحماية خطوط الإمدادات وتوفير الدعم اللوجيستي وتدريب الضباط السوريين، أصبح الآن يتحكم بخيوط اللعبة، ويقوم الجنرال قاسم سليماني قائد فيلق القدس بالاشراف على العمليات الخارجية للحرس الثوري، وهو شخصية مفتاحية في مجال إدارة عمليات التدريب والإشراف والقيادة لكافة المليشيات الشيعية المقاتلة في سوريا التي تدين بالولاء للمرشد الولي الفقيه آية الله علي خامنئي في طهران، حيث تشير التقديرات إلى أن أعداد المقاتلين الشيعة في سوريا تتراوح ما بين 8000 إلى 15000 مقاتل.

لا جدال بأن الاتفاق الأخير حول الملف النووي الإيراني بين الولايات المتحدة والغرب (5+1) وإيران جاء تتويجا لتراجع النفوذ الأمريكي في الشرق الأوسط عقب فشل سياسات "الحرب على الإرهاب"، التي تمخضت عن نتائج كارثية للولايات المتحدة، وساهمت في تعزيز مكانة إيران كدولة إقليمية فاعلة، ويبدو أن النهج الواقعي الفج للإدارة الأمريكية بات مقتنعا بأن إيران تمتلك مفاتيح الحل لأزماتها في المنطقة بدءا بأفغانسان وانتهاءا بفلسطين، كما أنها أصبحت مقتنعة بعدم قدرتها على مهاجمة إيران نظرا لكلفتها الباهظة، فالسردية الرئيسية للولايات المتحدة في سوريا كما في مناطق أخرى من العالم العربي تقوم على الاعتقاد بتنامي "الإرهاب" الذي ساهمت هي في خلقه من خلال تدخلاتها وفشل سياساتها في المنطقة، إذ باتت استرتيجيتها في محاربة "الإرهاب" تقتصر على التدخل من خلال الطائرات بدون طيار، وبهذا فلا إشكال بالاستعانة بإرهابيين تائبيين في حروبها، فإيران وسوريا اللتان طالما اعتبرتا راعييتين للإرهاب باتا شريكين في "الحرب على الإرهاب".

لقد تمكنت إيران من ترسيخ نفسها كقوة إقليمية معترف بها عبر الدفع بمفهوم "الإرهاب" إلى حدوده القصوى، وقد وجدت في تنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام "داعش" ضالتها المنشودة لكسر عزلتها وحماية حلفائها، حيث عملت على خلق الأسباب والشروط والظروف الموضوعية لتنامي "داعش" واستعمالها للتخلص من القوى السنية المعتدلة وخصوصا في العراق وسوريا.

 فعمليات التهميش والإقصاء الطائفي التي مارستها إيران عبر حليفها المالكي في العراق وصلت ذروتها مع بدء حركة احتجاجية سنيه سلمية نهاية عام 2012، والتي تعامل معها برعونة واسستخفاف باعتبارها تمردا يقوده "الصداميين والبعثيين والإرهابين"، ومن خلال التذرع بداعش احتفظ المالكي بنفوذه وتهرب من كافة المطالب المحقة، وعلى الجانب الآخر تمكنت إيران عبر حليفها الأسد في سوريا من قمع الحركات الاحتجاجية والمطالب الثورية من خلال التذرع بداعش مرة أخرى، وبهذا فإن دولة البغدادي باتت حليفا موضوعيا لجمهورية الملالي، وكلاهما يستمتع مؤقتا بانتظار مكر التاريخ.
التعليقات (0)

خبر عاجل