كتاب عربي 21

صراع الهويات الطائفية بين البغدادي والمالكي

حسن أبو هنية
1300x600
1300x600
لا جدال أن الاحتلال الأمريكي للعراق 2003 قام على التلاعب بالهويات الطائفية بطرائق عديدة، فسياسات الهوية الطائفية كانت أحد أهم خطوط استراتيجية المحافظين الجدد لتفتيت المجتمع وتفكيك الدولة لضمان عمليات الهيمنة والسيطرة، وهي السياسة الأثيرة الحاكمة للرؤية الاستشراقية والثقافوية للاستعمار التقليدي التاريخي البريطاني والفرنسي في المنطقة.

في سياق تفكيك الدولة والمجتمع العراقي عمدت الولايات المتحدة إلى بناء العملية السياسية على أسس هوياتية مزدوجة عبر تأكيد الهويات العرقية الإثنية وانقساماتها بين عرب وكرد بصورة أساسية، وترسيخ الاختلافات الهويانية الدينية المذهبية بين السنة والشيعة بشكل رئيسي، وفي الوقت الذي مكنت فيه الولايات المتحدة الكرد في إدارة لإقليم شبه مستقل، عملت على تهميش السنة كإجراء عقابي لانخراطهم في النظام السابق ومعارضتهم للاحتلال، أما الشيعة فقد تمت مكافأتهم وتمكينهم من الحكم بعد مساندة مرجعياتهم للاحتلال.

عقب خروج قوات الاحتلال الأمريكي من العراق نهاية 2011، باتت الدولة العراقية رهينة للنفوذ الإيراني، كما عمل المالكي على ترسيخ سلطويته الشخصية، وتمكين طائفته الشيعية يصورة فجة، وبعد سقوط الموصل مؤخرا بيد قوى وفعاليات وحركات سنية عديدة تتقدمهم قوات "الدولة الإسلامية في العراق والشام"، أصر المالكي على أنه يحارب "الإرهاب" وساندته إيران والمرجعيات الشيعية في اختزال المشهد إرهابويا، دون الالتفات إلى المطالبات العادلة بإصلاح مؤسسات الدولة وإنهاء السياسات الطائفية التمييزية التي تسببت بالانتفاضات الاحتجاجية الثورية  التي تنامت منذ 2012.

وإذا كانت المرجعيات الشيعية المنتفعة من الساسات الطائفية قد ساندت المالكي على أساس تأكيدات الهوية، فإن سياسات الهوية الطائفية تمثل أحد أهم المرتكزات الإيديولوجية لتنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام، إذ يقوم التنظيم منذ تأسيسه على الحفاظ على مستوى مرتفع من التحشيد الطائفي لضمان عمليات الاستقطاب والتعيئة والتجنيد لعناصره وأنصاره، وقد ساهمت سياسات حكومة المالكي الطائفية وظهيرها الإيراني وحليفها السوري على إمداد تنظيم "داعش" بالذرائع الإيديولوجية اللازمة لانتشار التنظيم وازدهاره، فقد عملت السياسة الإيرانية على بناء استرتيجية في العراق وسوريا تقوم على اختزال الحراكات الاحتجاجية المطالبة بالحرية والعدالة والديمقراطية واختطاف الثورات الشعبية السلمية باعتبارها ذات طبائع هوياتية طائفية وإرهابوية، وعقب أكثر من ثلاث سنوات من التهرب من المطالبات العادلة والمحقة تولدت قناعة في العراق وسوريا على أن الطائفية هي المحرك الأساس للسياسات الإيرانية، الأمر الذي عمل على بعث الحياة في مفاصل القاعدة في العراق وسوريا والمنطقة بأسرها.

نتائج سياسات الهوية الطائفية ظهرت جليا عندما استيقظ العالم فجر الثلاثاء 10يونيو/ حزيران، 2014، على وقع الصدمة والذهول عقب سقوط مدينة الموصل على يد عدد بسيط من المسلحين، وانهيار قوات كبيرة من الجيش والشرطة العراقية وفرارها دون مقاومة حقيقية. هوية المهاجمين تأكدت مع إعلان محافظ نينوى أثيل النجيفي عن سقوط الموصل في قبضة "الدولة الإسلامية في العراق والشام"، والتي أعلنت على لسان ناطقها الرسمي أبو محمد العدناني من خلال كلمة صوتية مسجلة بعنوان "ما أصابك من حسنة فمن الله"  عن مواصلة زحفها وتوسعها، وقال: "إن بيننا تصفية للحساب ... حساب ثقيل طويل، ولكن تصفية الحساب لن تكون في سامراء أو بغداد، وأنما في كربلاء المنجسة والنجف الأشرك وانتظروا أن معكم منتظرون".

لقد استثمر البغدادي سياسات الهوية  لتعزيز مكانة شبكته في العراق وسوريا عقب بدء ثورات الربيع العربي الهش، الذي شهد انبعاث الهويات الطائفية، فدولة البغدادي التي قامت على أساس هوياتي وتعتمد منطق الحروب الجديدة وتتوافر على خبرات كبيرة في مواجهة تكتيكات مكافحة التمرد أدركت مبكرا طبائع الصراعات وآليات عملها، فقد عملت منذ انسحاب القوات الأمريكية عام 2011 من العراق والذي تزامن مع بدء فعاليات حركات الاحتجاج الثوري في العالم العربي ودخول آفاقه منتصف آذار/ مارس إلى سوريا ثم وصوله إلى العراق نهاية 2012  على تدشين ولادة ثالثة لتنظيم القاعدة، وبعث الحياة في جسد تنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام، وتكوين سلالة جديدة أكثر عنفا وأشد فتكا، فقد استثمرت دولة البغدادي الظروف الموضوعية التي تمثلت بالثورة السورية، والحركة الاحتجاجية التي شهدتها المحافظات السنية الست المنتفضة وهي الموصل والأنبار وديالى وصلاح الدين وأجزاء عدة من بغداد وكركوك لإعادة بناء شبكته وتوسيع مجال نفوذه.

في سياق إعادة إنتاج السلطوية في العالم العربي عملت إيران على تدعيم نفوذها في العراق، وتدخلت عبر الحرس الثوري المباشر واستثمار شبكة المليشيات العراقية واللبنانية وغيرها  لإنقاذ حليفها الأسد من السقوط الذي عمل مع إيران وروسيا على كبح الثورة السورية باعتبارها ذات طبائع إرهابوية، ويبدو أن الإطار الجامع بين إيران الولايات المتحدة والمالكي  على أساس "الحرب على الإرهاب"، يشهد تبدلا طفيفا فقد أدانت الولايات المتحدة سياسات المالكي الطائفية مؤخرا، مع أنها تغاضت عن عمليات التهميش والإقصاء الطائفي التي مارسها المالكي تحت ذريعة "الحرب على الإرهاب".

سياسات الهوية لدى المالكي وظهيره الإيراني برزت عقب سقوط الموصل بصورة لافته، فبدلا من التوجه نحو سياسة تقوم على الاعتراف بالمطالب العادلة في المحافظات السنيّة، توجه نحو المزيد من سياسات الهوية الطائفية،  فعقب سقوط الموصل في10حزيران/يونيو، دعا رئيس الوزراء العراقي نوري المالكي علناً إلى إقامة ميليشيات شعبية، الأمر الذي استجابت له المرجعية الشيعية العليا للسيستاني بالإعلان عن وجوب الجهاد الكفائي، وبدت الاستعراضات الطائفية مشهدا مألوفا لكافة التيارات الشيعبة الصدرية وغيرها، بحجة حماية المراقد المقدسة، وعملت أذرع إيران على إعادة انتشار قواتها التي تقاتل في سوريا وعودتها إلى العراق كما فعلت "كتائب حزب الله" و"عصائب أهل الحق"، وتعمل هذه المليشيات بشكل وثيق مع الجيش العراقي و"قوى الأمن الداخلي". وقد ظهرت مليشيات شيعية جديدة عديدة بحجة "الدفاع عن العراق"، ومنها "سرايا الدفاع الشعبي"، وفي أيار/مايو، أعلن فيديو رسمي لـ"كتائب حزب الله" أنّ هذه السرايا تقاتل إلى جانب "قوى الأمن الداخلي" العراقية، كما  أنشأت "عصائب أهل الحق" و"منظمة بدر"  العديد من "اللجان الشعبية" المتمركزة في المدن منذ نيسان/أبريل الماضي، وفي كانون الثاني/يناير، أعلن كلّ من "عصائب أهل الحق" و "لواء الرد السريع" الذي يتبع "لواء أبو الفضل العباس والمعروف  باسم "أفواج الكفيل" الموجّه من إيران أنهما أعادا قوات من سوريا إلى العراق، وبحسب بعض التقارير فإن  قائد "الحرس الثوري" قاسم سليماني قام عقب سقوط الموصل بزيارة ممثلي المنظمات الشيعية المدعومة من إيران، الأمر الذي يكشف الطبائع الهويتية الطائفية لإيران.

سياسات الهوية الطائفية التي اعتمدتها إيران للتخلص من استحقاقات عادلة مكنت دولة البغدادي اليوم من السيطرة على مساحات شاسعة غرب العراق وخصوصا محافظة الأنبار ثم نينوى وضلاح الدين، وشرق سوريا خصوصا محافظة الرقة ودير الزور والحسكة، وعلى الرغم من قوة تنظيم "داعش" الذاتية، إلا أن قوتها الحقيقية موضوعية، فالسياسات الهوياتية والمشاكل السياسية والاقتصادية في العراق وسوريا توفر بيئات حاضنة مثالية للتنظيم، فالطبيعة السلطوية والطائفية لنظاميّ الأسد والمالكي المسندة من إيران وانحراف طبائع الصراع إلى شكل هوياتي طائفي بين السنة والشيعة وفر بيئة مثالية خصبة للتعبئة، وجاذبية إيديولوجية للتنظيم. 

لم يكن ممكنا لدولة البغدادي أن تتمدد وتتحول من العالم الافترضي إلى الواقعي إلا عبر سياسات الولايات المتحدة وإيران والمالكي والأسد الطائفية الفجة والإرهابوية البائسة، ولا جدال بأن دولة البغدادي تلاعبت بكافة الأطراف وباتت تتمتع بقوة كبيرة يشرية وعسكرية ومالية وإعلامية وتقنية، 
 فأجندة الدولة الإسلامية في العراق والشام تقوم على أولوية مواجهة النفوذ والتوسع الإيراني في المنطقة ومحاربة "المشروع الصفوي" كما تصفه، وخصوصا بعد رحيل القوات الأمريكية عن العراق، فالأساس الهوياتي هو المحرك الرئيس لسلوك الفرع العراقي بينما الأساس المصلحي الجيوسياسي هو المحرك الرئيس للقيادة المركزية للقاعدة، أما تمكين الشريعة فهو الهدف المشترك للطرفين.

خلاصة الأمر أن سياسات الهوية الطائفية عملت على تثبيت أركان دولة البغدادي في العراق وسوريا، ففي الوقت الذي كانت فيه إيران تدعم سياسات المالكي والأسد الطائفية، كانت دولة البغدادي تؤكد على صواب نهجها الهوياتي، وفي تفس الوقت الذي كانت الولايات المتحدة تعيد تشكيل تحالفاتها مع إيران على أساس الحرب على الإرهاب، ومكافحة التمرد كان البغدادي يؤكد على صحة فشل المعارضة السلمية وفصائل المقاومة المسلحة المعتدلة، وفي سياق الثورة المضادة المرتكزة على سياسات الهوية سعت كافة الأطراف إلى عدم استهداف دولة البغدادي للتأكيد على أن ما يحدث في سوريا والعراق يقع في إطار "الإرهاب"، الأمر الذي استثمره البغدادي في بناء شبكاته وتوسيع مجاله وتثبيت أركان دولته في العراق والشام، وإذا أصر المالكي على الذهاب بعيدا في سياساته الهوياتية الطائفية وتوظيف المرجعيات الشيعية وحشد  المليشيات الشيعية خارج إطار الأمة ــ الدولة، فإن ظاهرة الدولة الإسلامية في العراق والشام سوف تستقطب قوى وفعاليات وتوجهات سنية كانت معادية لها حتى وقت قريب.  
التعليقات (1)
برج الحوت
الأحد، 22-06-2014 11:36 ص
مقال وتحليل رائع جدا يارب الدولة الاسلامية تيجى مصر مش هتاخد فى ايها ساعة زمن