كتاب عربي 21

هل حررت الحرب حماس من قيود السلطة؟

فراس أبو هلال
1300x600
1300x600
منذ دخول حماس انتخابات المجلس التشريعي الفلسطيني وحصولها على الأغلبية البرلمانية في يناير 2006، بدأت الحركة طورا جديدا وربما غير مسبوق في تاريخ حركات التحرر الوطني. شيئا فشيئا صارت الحركة مقيدة بقيود سلطة لا توافق على أصلها المنشئ لها وهي اتفاقية أوسلو. وشيئا فشيئا صارت حماس تعيش دوامة الجمع بين متناقضين: المقاومة والسلطة تحت الاحتلال.

ظلت الحركة خلال السنوات الثمانية الماضية تطرح خطابا يؤكد على نجاح تجربتها المحفوفة بالخطر، وأقامت حجتها الأساسية على الافتخار بممارستها للحكم وحمايتها بل وتطويرها لأسايب وإمكانيات المقاومة في ذات الوقت. 

والحقيقة أن حماس استطاعت فعلا أن تتمسك إلى حد كبير بخطاب وفعل يدعم مشروع المقاومة، ورفضت الانصياع لشروط الرباعية الدولية كمدخل إجباري للحصول على رضا وتمويل ومساعدات "المجتمع الدولي"، وصمدت في وجه ضغوط الأشقاء الفلسطينيين والإخوة العرب واللاعبين الدوليين، وحافظت على المقاومة، وخاضت ثلاثة حروب، وحققت نوعا مما يسمى بـ "توازن الرعب"، وأدارت عملية مفاوضات مشرفة ندية لتبادل الأسرى، ومفاوضات شاقة، وإن كانت بنتائج أقل من المأمول، أثناء العدوان الأخير على غزة، ولم ترفع الراية البيضاء برغم التضحيات الكبيرة. ولكن للحقيقة وجوه أخرى!

وقد يكون من العسير في مثل هذا الوقت، أن يتم الحديث بعقلانية وبرود عن الوجوه الأخرى لهذه الحقيقة، بعد حرب ضروس قدمت فيها حماس مع الشعب الفلسطيني تضحيات جسيمة، وصمود أسطوري، ولكن التجربة تغري أي حريص على مستقبل المشروع الوطني الفلسطيني أن يمارس البحث النقدي، في محاولة لاستخلاص الدروس والعبر. 

ولعل الجانب الأكثر إثارة للنقاش في هذه التجربة، هو مدى التقييد الذي كبل حماس ومشروعها
السياسي والمقاوم، بسبب تحمل مسؤولية الحكم تحت سقف أوسلو، الذي يربط السلطة بشكل عضوي ووجودي بالاحتلال. 

لقد أدت هذه القيود فعليا إلى تحويل حركة حماس إلى جسم هجين، يجمع بين المتناقضات، ويمشي على خط رفيع بين متطلبات وقيود السلطة، وحرية و"جموح" المقاومة. وبالتأكيد فإن من خسر بفعل هذه القيود ليست فقط حركة حماس، بل أيضا حركة التحرر الوطني الفلسطيني، التي تحولت بفعل فقدان حماس - المتحللة من قيود السلطة- إلى دولة بلا دولة، وسلطة بلا سيادة، وحركة تحرر وطني بدون جموح وربما "جنون" حركات المقاومة.

اضطرت حركة حماس خلال سنوات حكمها الثمانية للعض على الجرح مع أكثر من طرف، لأنها لا تستطيع، وهي تمارس الحكم، أن تتخلى عن واجباتها تجاه الشعب الذي تحكمه. أصبحت الحركة رهينة لدكتاتوريا الجغرافيا مع مصر "الرسمية"، وأضطرت، لكي تؤدي واجباتها كسلطة، أن تمارس أقصى درجات الدبلوماسية والسياسة وأحيانا "المسايسة" مع نظام يكن لها العداء في السر والعلن، ويسعى بكل ما أوتي من قوة منذ سنوات لإسقاطها.

ظلت الحركة تتقلب بين مواقف الرفض "الناعمة" والإدانة الشديدة لجرائم نظام بشار الأسد، بحكم اضطرارها لإبقاء خيوط التعاون مع الراعي الرسمي لهذا النظام في طهران، لأنها مسؤولة عن شعب يزيد عدده عن مليون وثمانمئة ألف، ولا يمكن لها كسلطة حاكمة أن تتخلى عن مسؤولياتها تجاههم، وخسارة أي حليف لها قد يساهم في دعمها لأداء هذه المسؤوليات.

كانت واجبات "السلطة" والتزامها تجاه شعبها عاملا مهما بلا شك، في كل القرارات والسياسات التي اتخذتها حركة حماس خلال السنوات الماضية. وبالرغم من ذلك، فقد تعرضت شعبيتها للتراجع بحكم طبيعة الأشياء، لأن الناس لا يحبون أي "سلطة" عادة، ولهذا فقد أشارت كثير من استطلاعات الرأي خلال السنوات الماضية إلى أن شعبية حماس في الضفة الغربية تفوق شعبية فتح هناك، فيما تتفوق فتح على حماس في قطاع غزة. صحيح أن صمود حركة حماس في مقاومة العدوان الإسرائيلي الأخير قد رفع من شعبيتها بشكل هائل داخل غزة وخارجها، إلا أن الوضع قد يختلف إذا عادت الأمور إلى طبيعتها، ووضعت حماس في واجهة الحكم في القطاع.

قبيل العدوان الأخير، وافقت حركة حماس مضطرة على مصالحة وطنية مجحفة وغير محددة المعالم والتفاصيل، لأنها أدركت على ما يبدو، دون أن تعلن ذلك بشكل رسمي، أنها لم تعد قادرة على الوفاء بالتزاماتها كسلطة حاكمة، في ظل الأوضاع الوطنية والإقليمية والدولية، وفي ظل الحرب المسعورة التي تشنها أطراف إقليمية ودولية لمحاربة الحركة باعتبارها جزءا من تيار الإسلام السياسي في المنطقة.

ومع انتهاء العدوان، تبدو الحركة غير حريصة على العودة لممارسة اللعبة المزدوجة الخطرة بين طرفي نقيض، ولهذا فقد أعلنت أكثر من مرة عن التزامها باتفاقيات المصالحة الموقعة في القاهرة والدوحة ومخيم الشاطئ، على الرغم من الحملة الإعلامية الشديدة التي بدأ بشنها محمود عباس والناطقين باسم سلطته وباسم حركة فتح ضد حماس، بمجرد إعلان اتفاق وقف إطلاق النار.

قد تخسر حركة حماس بعض مواقعها عند استلام حكومة الوفاق الوطني الحكم فعليا في غزة، وقد تتعرض مسيرة الوحدة الوطنية إلى الكثير من المطبات، ولكن الحركة قد تتمكن بالمقابل من تحقيق أحد أفضل إنجازاتها خلال سنوات، وهو التحلل من قيود السلطة، والعودة إلى مربع حركة التحرر الوطني، والتفكير "بعقلانية" أقل في صناعة استراتيجية وطنية للتعامل مع الصراع الأكثر "جنونا" في المنطقة! 
التعليقات (0)