كتاب عربي 21

الإمبراطورية واقتصادات حرب الإرهاب

حسن أبو هنية
1300x600
1300x600
عندما سيطر تنظيم الدولة على الموصل في 10 حزيران/ يونيو 2014 بدأت الولايات المتحدة تدرك قوة التنظيم، وتتنبه لحجم المخاطر المستقبلية لتمدده، ومع توغل جهادييه باتجاه نفط الشمال في إقليم كردستان سارعت القوات الجوية الأمريكية وحلفائها  في 8 آب/ أغسطس 2014 بقصف مواقع وقوات تنظيم الدّولة في العراق لمنعه من التقدم وصد هجماته واحتواء طموحاته، بإسناد قوات البيشمركة الموثوقة كشريك، إلا أن التنظيم خالف التوقعات وبدلا من التقدم باتجاه بغداد، ذهب إلى الشطر السوري وبدأ بتطهير مناطق سيطرته من بقايا فرق وألوية ومطارات النظام، ثم بدأ بمهاجمة المناطق الكردية السورية لخلق واقع جديد وحرمان الولايات المتحدة من حليف كردي موثوق، عندها بادرت الولايات المتحدة بقصف مواقع وقوات تنظيم الدولة في سوريا بتاريخ 23 أيلول/ سبتمبر، لردعه وإفشال مخططاته الرامية إلى خلق فضاء جيوسياسي جديد.  

في اليوم التالي لبدء الهجمات الجوية على تنظيم الدولة وجبهة النصرة وكافة الفصائل الجهادية كأحرار الشام في سوريا ألقى الرئيس الأميركي باراك أوباما خطاباً أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة في 24 أيلول/ سبتمبر، وفي هذه المرة خلع الرئيس أوباما الوجه الحقوقي المدني الذي أوصله لسدة رئاسة البيت الأبيض عام 2009، وحصل بسببه على جائزة نوبل للسلام كداعية لأجندة الأمم المتحدة وتخليص العالم من البؤس والعنف، ولم يلبث أن استسلم لبنية العالم الصلبة ليرتدي الوجه الأمريكي الواقعي، وفي النهاية ظهر أوباما على منبر الأمم المتحدة  بالوجه الإمبراطوري الإمبيريالي، كزعيم في زمن الحرب لديه الإرادة والعزم  لتدمير عدوه، وباتت أولويته القصوى إقناع وإجبار الدول الأخرى بالمساهمة عسكريا وماليا في القضاء على تنظيم "داعش" مقررا أن  هذه ليست حرب الولايات المتحدة وحدها، وبالفعل تمكن من حشد تحالف دولي من أكثر من 50 دولة بينها 5 دول عربية شاركت فعليا في الضربات العسكرية الجوية، هي السعودية والأردن والبحرين والإمارات وقطر منذ اليوم الأول للحملة.

أحد أحجيات الحرب على الإرهاب هو المسألة الاقتصادية، ففي هذه الجولة طلب وزير الدفاع الأميركي  تشاك هيغل 500 مليار دولار  لتمويل الحرب ضد تنظيم "الدولة الإسلامية"، الأمر الذي يبعث على الشك والتساؤل في ظل رأسمالية اقتصاد الكوارث، إذ لا يمل الرئيس أوباما في كل مناسبة من تكرار التأكيد على أن أمريكا تعاني اقتصاديا على كافة المستويات، التعليمية والصحية فضلا عن العسكرية، ويخيّل  للمتلقي  أنه يتحدث عن أحد دول العالم الثالث، لكن الرئيس الذي جاء بأجندة تسعى للتخلص من تركة بوش الثقيلة وسياساته الإرهابوية المكلفة في أفغانستان والعراق على الصعيدين المادي والرمزي، لا يختلف كثيرا، ربما يكون أوباما على المستوى الشخصي أكثر ذكاءً من بوش، وهذا الاعتقاد كان سائدا لدى قطاعات الرأي العام الأمريكي عند توليه الرئاسة، إلا أن تفسير التغير في السياسة الأمريكية يبدو مضللا وخاطئا تماما، فالكلمة المفتاحية التي تلخص السياسة الخارجية الأمريكية أو الامبريالية اليوم هي البراغماتية، فبحسب روبرت رابيل فإن خطاب أوباما الشهير في القاهرة، يتميّز في طريقة التعامل مع الشرق الأوسط من خلال البراغماتية المغلفة بتصدير الأمل.

كان المفكر البريطاني طارق علي قد حذر عند تولي أوباما الرئاسة اليساريين في أمريكا وأوروبا وكندا من الانخداع بما أسماه الهوجة الأوبامية، وقال: إن هؤلاء عليهم الانتباه إلى أن الأمبريالية اليوم ترتدي وجهاً إنسانياً عليه صورة أوباما، تحتل تحذيرات طارق علي أهمية كبيرة في السياق الأمريكي على وجه الخصوص، حيث كان يطالب الكثيرون في اليسار الإصلاحي جموع اليسار بتخفيض حدة نقدهم لأوباما، وحيث يتهم اليسار الإصلاحي نظيره الراديكالي بالتطرف اليساري، وإذا وافقنا على أن اليسار الإصلاحي الأمريكي لديه من الأسباب التي تبرر خداعه الذاتي حول أوباما، بسبب خطاب الأخير الداخلي عن الفقراء والتأمين الاجتماعي والصحي، نعتقد أن مسلك الإدارة الأمريكية من القضية الفلسطينية على وجه الخصوص يمثل سبباً مقنعاً لأي عاقل في العالم العربي والإسلامي بعدم تصديق خداع الامبريالية، مهما ارتدت من أقنعة.

لا جدال أن أوباما لا يختلف كثيرا عن بوش، سوى أنه يتوافر على جاذبية شخصية وخطابية، إذ لم تتغير سياسات الحرب على الإرهاب على المستوى المضموني العملي، وقد تنامت الجهادية العالمية منذ 2001، وأصبحت أكثر انتشارا وأوسع نفوذا وأشد خطرا، وباتت القاعدة تسيطر على مساحات واسعة في أماكن عديدة، في العراق وسوريا وليبيا والصومال واليمن وسيناء وفي دول جنوب الصحراء والساحل، وشهدت الجهادية انشطارا إلى نهجين خطرين، أحدهما يتمسك بأجندة القاعدة التقليدية بزعامة أيمن الظواهري، والتي تهدف منذ الإعلان عن تأسيس "الجبهة الإسلامية العالمية لقتال اليهود والصليبيين" عام 1998 إلى قتال الغرب عمومًا والولايات المتحدة خصوصًا باعتبارها حامية للأنظمة العربية الاستبدادية، وراعية لحليفتها الإستراتيجية إسرائيل من جهة، والسعي لتطبيق الشريعة الإسلامية وإقامة الخلافة من جهة أخرى،  أما النهج الآخر فيقوده الفرع العراقي المعروف بــ "الدولة الإسلامية ــ داعش" بزعامة أبوبكر البغدادي،  وأجندته  ترتكز على أولوية مواجهة النفوذ والتوسع الإيراني في المنطقة ومحاربة "المشروع الصفوي" كما تصفه؛ فالأساس الهوياتي (السني ـــ الشيعي) أصبح المحرّك الرئيس لسلوك الفرع العراقي، بينما الأساس المصلحي الجيوسياسي بقي المحرّك الرئيس للقيادة المركزية للقاعدة، أما تمكين الشريعة فهو الهدف المشترك للطرفين.

لقد فشلت استراتيجية الحرب على الإرهاب قبل فترة طويلة، لكن سقوط الموصل كان الإشارة التي التفت إليها الجميع، فبحسب باتريك كوكبرن لقد فشلت استراتيجية "الحرب على الإرهاب" لأنها لم تستهدف المتطرفين بشكل كامل، لكنها استهدفت الجهاديين بشكل انتقائي، وهذا دفع الولايات المتحدة إلى تجنب السعودية وباكستان على سبيل المثال، وهما أكثر بلدين عززا الفكر المتطرف كعقيدة وبشكل حركي. هاتان الدولتان هما الأقرب للولايات المتحدة، وهم على صلة وثيقة بتجارة السلاح الأمريكية، ويمثلان سوقا هائلا للسلاح الأمريكي، وباكستان تحديدا هي قوة نووية يُعد جيشها مقربا من وزارة الدفاع الأمريكية.

ويقول جوناثان تورلي أنه بعد أكثر من خمسين سنة يجد الأمريكيون أنفسهم في حرب دائمة، فلا يمكنهم مثلا عدم التدخل في سوريا أو ليبيا أو العراق أو إيران، وبينما تشكل الحرب الدائمة خسائر دائمة من حيث الضحايا ومن حيث ميزانيات الإنفاق، إلا أنها تمثل أيضا أرباحا دائمة لمجمع ضخم من المؤسسات الحكومية والتجارية. وفي هذا السياق يغذي المجمع الصناعي العسكري من قبل عدو غامض، غير مرئي هو "الإرهابي"، فقد أصر جورج بوش على تسمية جهود مكافحة الإرهاب "حربا"، وفعل ذلك أيضا نائبه ديك تشيني الذي كان رئيسا تنفيذيا لشركة هاليبرتون لأنظمة الدفاع، فــ "الحرب" لن تعطي الرئيس صلاحيات شبه مطلقة فقط، لكنها أيضا ستغذي الإنفاق على الصناعات العسكرية وأجهزة الأمن.

بحسب تورلي، إن الأمر خطير للغاية من حيث الاقتصاد، فإن أكثر من 75? من الذين يسقطون في الحروب (من الجنود الأمريكيين) هم من عائلات الطبقات العاملة، بالإضافة إلى أن اقتصاد البلاد بالفعل يبدو اقتصادا قائما على الحرب، بداية من استشاريي مكافحة الإرهاب والدرجات العلمية التي تُعطى في الدراسات الأمنية وبرامج أمن المطارات وغيرها، مؤخرا قُدرت الميزانية "السوداء" من برامج المخابرات السرية وحدها بمبلغ 52.6 مليار دولار، هذه ليست سوى برامج سرية وليست ميزانية الاستخبارات أو برامج مكافحة التجسس التي تبلغ أضعاف ذلك، ففي الولايات المتحدة أكثر من 16 وكالة تجسس توظف أكثر من 107 ألف موظفا، بخلاف أكثر من مليون يعملون في الجيش ووكالة الأمن القومي. أما بالنسبة لجماعات الضغط واللوبيات فإن هناك الآلاف منها في واشنطن لضمان الأخذ في توسيع ميزانيات الحرب والأمن الوطني. مثال على ذلك هو وزير الأمن الوطني السابق مايكل شيرتوف الذي دفع في اتجاه شراء أجهزة مسح الأجسام في المطارات والتي تعرضت لانتقادات شديدة للغاية، لم يعرف أحد حينها، أن الشركة المنتجة لتلك الآلات باهظة الثمن هي عميلة لشركة الوزير شيرتوف للاستشارات الأمنية.

ومن ناحية المستفيدين الآخرين، فإن المستفيدين ليسا فقط وزارة الدفاع أو الأمن الوطني، لكن وزارة العدل كذلك أنشأت نظاما ضخما لمكافحة الإرهاب ووظفت فيه عشرات الآلاف من الموظفين للبحث عن الإرهابيين المحليين، لقد كانت مشكلة هذا النظام هو "نقص الإرهابيين" أو قلة عددهم مقارنة بالإنفاق الضخم.

 عندما أصبح أوباما رئيساً في 2009، واجه تحديا هائلا تمثل في توسيع المصالح الإمبريالية الأمريكية والغربية، ثماني سنوات من التصرفات القاسية والمتهورة لإدارة بوش تركت آثاراً سلبية كبيرة على العالم، حيث شنت حربين بريتين على نطاق واسع وقامت باحتلال بلدين هما العراق وأفغانستان، وانتشرت القوات العسكرية الغربية وتمددت في جميع أنحاء العالم، القلق بات في تزايد مستمر بين سكان العالم، وتنامت انتقادات استخدام القوة العسكرية، في الداخل والخارج على حد سواء. وكما قالها بريجنسكي: "في الوقت الذي أصبحت فيه قدراتها العسكرية أشد فتكاً مما كانت عليه في أي وقت مضى، إلا أن قدرة الدول الكبرى على فرض سيطرتها على شعوب العالم التي نهضت سياسيا هي اليوم في أدنى مستوياتها عبر التاريخ.

كتب أندرو غافن مارشال بخصوص "الحرب على الإرهاب"، أن أوباما سعى لتنفيذ رؤاه الانتخابية المتعلقة بـ "الأمل" و"التغيير" بطريقته الوحيدة التي يجيدها: تغيير الخطاب، وليس الجوهر، ومجرد أماني بأن تستمر الإمبراطورية في توسيع نفوذها في جميع أنحاء العالم، وعلى هذا النحو، قام أوباما بتنفيذ تغيير سريع في السياسات، وقام بإسقاط مصطلح "الحرب على الإرهاب" و استبداله، بمصطلح آخر لا معنى له أيضاً- إن لم يكن أكثر غموضاً- وهو  "عمليات الطوارئ في الخارج، فكل يوم ثلاثاء ينعقد اجتماع لمكافحة الإرهاب في غرفة العمليات بالبيت الأبيض يشارك فيه عشرين مسؤولا أمنيا ليقرروا من هم الذين سيذهبون لقصفه بشكل غير مشروع خلال هذا الأسبوع، وإعداد قائمة اسبوعية يسمونها "قائمة القتل".

وبحلول شهر أكتوبر من عام 2012، تطورت قائمة أوباما "للقتل" لتشمل "الجيل التالي من قائمة الاستهداف"، الذين يشار إليهم رسميا الآن باسم "مصفوفة الحسم" وهي محاولة أخرى لتحقير اللغة الإنجليزية "فمصفوفة الحسم" هي قائمة القتل، إذ تضع قائمة بأسماء "مشتبهين بعلاقتهم بالإرهاب"، من الذين تريد إدارة أوباما "التخلص منهم" من دون محاكمة، بعيداً عن سيادة القانون، وبما يخالف جميع القوانين المعمول بها دوليا، وارتكاب سافر لجرائم الحرب الصارخة بقتل المدنيين الأبرياء.
وبرنامج الطائرات بدون طيار يتلاءم تماما مع وصف زبيغنيو بريجنسكي في عام 2009 عندما قال إن نفوذ الدول الكبرى في العالم أصبحت في مرحلة " فيها قدرات قوتها العسكرية للفتك بالآخرين أكبر من أي وقت مضى. " ولكن، وكما قال بريجنسكي، وكما يتضح في حالة الربيع العربي، والتغيرات السياسية الهائلة في أمريكا اللاتينية خلال فترة العقد والنصف الماضية، وزيادة الاضطرابات بين الشعوب في جميع أنحاء العالم،" فإن قدرة القوى الكبرى على فرض سيطرتها على شعوب العالم التي نهضت سياسيا هي اليوم في أدنى مستوياتها عبر التاريخ. ولنقل ذلك صراحة: في أوقات سابقة، كانت السيطرة على مليون شخص أسهل بكثير من قتلهم جسديا، أما اليوم، فإن قتل مليون شخص أسهل بكثير من السيطرة عليهم.

خلاصة الأمر أن وجوه الولايات المتحدة الثلاث: الحقوقي المدني والواقعي والامبراطوري الإمبريالي، تتلخص في النزعة البراغماتية الفجة في ظل اقتصاد رأسمالية الكوارث، وقد استخدم أوياما كافة الأقنعة، ولا تخرج الحملة الحالية عن سياق اقتصادات حرب الإرهاب وتشغيل المجمع الصناعي العسكري، فلم تغادر الإمبراطورية سياسات "الحرب على الإرهاب" التقليدية التي تستند إلى المعالجة العسكرية الأمنية، رغم بلاغة الخطاب المتعلق بالإسباب والشروط والظروف المنتجة للإرهاب، وفي مقدمتها انسداد أفق التغيير الديمقراطي السلمي، والنهج السلطوي الاستبدادي، والإفقار والتهميش والبطالة، والإقصاء والاستبعاد والاستئصال، والهيمنة والتسلط والإخضاع، فلا زالت الإمبراطورية تتحالف مع ضمان استقرار مصالحها، ولا تحفل بالديمقراطية والحقوق والحريات والإقليات في المنطقة، إلا كأدوات استعمالية للتحكم والسيطرة وضمان الإمداد والتفوق الاقتصادي، إنها صديقة فرانكشتاين الذي تمثله أنظمة البؤس، وعدوها الدائم وحشه الذي تمثله شعوب المنطقة.
التعليقات (0)