كتاب عربي 21

عودة اليأس المعتق؟

نور الدين العلوي
1300x600
1300x600
تكلم الصندوق في تونس وأفرز نتيجة أصفها بالردة عن الديمقراطية. لقد عادت منظومة الفساد والاستبداد لتمسك الدولة من خناقها، وتوجهها نحو إعادة إنتاج اليأس والإحباط.، مخارج من الإحباط في مواجهة هذه المفرمة المدربة على تفتيت الأمل، هذا مرحلة لإنقاذ الذوات المهزومة برمي الأسباب على آخر قصَّر في مهامه وسيسود التنصل من المسؤولية الفردية. إن تحميل المسؤوليات مهمة/ مرحلة ضرورية، ومسؤولية شد العزائم لإعادة صعود الربوة من جديد ستكون بدورها مهمة عسيرة جدا.

هل كان يمكن تحصين الثورة بقانون؟ 

هذا السؤال يعود بقوة وهو المدخل المريح لإلقاء المسؤولية على الترويكا التي حكمت بيد مرتعشة والعبارة بدورها مريحة لمن لم يحرك يده بالمرة، ولكن هل كان الإقصاء بالنص مفيدا؟ وهل النظام القديم / العائد هو مجموعة من الأشخاص الذين تقلدوا مهام سياسية في وقت ما؟

أولا: النظام ليس مجموعة من الأشخاص، بل هو منظومة كاملة، ولها أجهزة منها بالخصوص الإعلام  ورؤوس الأموال والإدارة العميقة، وهؤلاء ما كان يمكن أن يفصلوا عن العمل السياسي بقانون مهما كانت مساحة تطبيقه، فضلا على أن عزل الأشخاص لا يعني انتهاء دورهم أو انتهاء نفوذهم على الأرض.

ثانيا: النظام القديم ليس هؤلاء الأشخاص فقط إذ كان يمكن ولو بقانون تحصين الثورة تقديم وجوه جديدة  للصف الأول وإسنادهم بالمعزولين أنفسهم؛ لذلك فهذا العزل شكلي وغير فعال، والمزايدة به الآن تنم عن جهل وسوء نية أو كسل فكري أكثر مما تدل على فهم للواقع المعيش بعد الثورة وقبلها.

هل كان يمكن توحيد الصف الوطني مع الثورة ضد النظام؟ 

السؤال الذي يجب أن يطرح قبل ذلك هل يوجد صف وطني مستعد لدفع الثورة إلى مداها وتطوير أدائها وتغيير الواقع على أساسها وطبقا لشعاراتها؟ والإجابة عندي هي أن مقولات الوطنية مقولات مستهلكة وغير ذات معنى. إن المجال مقسم بين المستفيدين وغير المستفيدين من النظام القديم، وترتيب المواقف على أساس الانتفاع مقابل الضرر يسمح برؤية أوضح.

لقد رتب المستفيدون أنفسهم منذ اليوم الأول للثورة، والصف الذي فاز في انتخابات 2014 هو صف المتملك للبلد مؤسسات وخيرات منذ دهر سحيق.، وما حدث أنه يستعيد أملاكه من صف طمع أن ينال منها نصيبا، لقد قاوم من أجل أن يستقر الأمر للمالكين العابرين وخرَّب بكل قوته حتى انفض الناس إليه ثانية محتمين من خوف ومن طمع، إن المسألة  في عمقها صراع اجتماعي يتعامي كثير من الثوريين على رؤيته كما هو بين فقراء البلد المقصيين وبين مستحوذين بقوة الدولة على الخيرات. من هذه الزاوية نسأل من كان مع الفقراء  والمهمشين ومن كان ضدهم  حتى استعاد الملاك ملكهم الذي يزعمون؟  

يسار البوبو  ضد حزب الفقراء

يسار البوبو اصطلاح يختصر اصطلاح فرنسي يطلق على من يسمى بيسار الكفيار أو اليسار المتبرجز.(La bourgeoisie bohème)، وهو اليسار الذي يتملك اسم اليسار، ولكنه يعيش بطرح قضايا لا علاقة لها بتراث اليسار الثوري لأول القرن العشرين ويتمعش من تلك القضايا دون اتصال بالواقع، وهو يؤدي مهمة مجدية جدا، لأنه يشغل مكان المعارضة التي لا تضير رأس المال، بل يخفي بمعاركه الوهمية  حقيقة المعركة الاجتماعية الجارية على الأرض.

هذا اليسار جر المعركة في تونس إلى قضاياه الوهمية التي يتقن اصطناعها منذ ظهوره، وجعل النظام الجديد في حالة لهاث وراء تبرئة نفسه، فوقع في فخ لم يستطع الخروج منه، بل غرق فيه ورد الفعل بما أبعده فعلا عن قضايا الثورة وأحلامها، وربح يسار البوبو معركته، واستعاد دوره في تمويه الصراع بما يخدم رؤساءه القدامى العائدين الآن لتكليفه بنفس المهمة. لقد خرج هذا اليسار بشعاراته وممارساته من موقعه الاجتماعي المنحاز للفقراء، وسيعيش من هذا الدور الملحق بالنظام القديم حتى فنائه، وهو الدور الوحيد الذي يتقنه.

في مقابل ذلك لم يستطع حزب الفقراء التميز وتقوية صفه في معركة شرسة، لقد حرضت الثورة الكثيرين على الانتماء، ولكن حرضت آخرين على التسلل بين الصفوف للفوز بشيء ما من غنيمة بدت متاحة وبلا حراس، لكنهم اخطؤوا الحساب.

حزب الفقراء : التيه الأبدي

لقد أعادت البرجوازية قديمها وحديثها تنظيم صفوفها، واستعادت مواقعها وممتلكاتها وقدرتها على الضبط الغاصب، وستقوم بدورها التقليدي في تفتيت قليل الحرية المكتسب، وإن موَّهت ذلك مرة ثانية بشعارات الوحدة الوطنية وضرورات المرحلة، وهو خطاب عاد يطل برأسه من جديد منذ الساعات الأولى لإعلان نتائج الفرز الانتخابي، ويخطئ من يعتقد أن مكسب الحرية قد ضمن إلى الأبد. إن الحرية هي الخطر الأكبر ضد الفساد الذي يرعاه نظام فاسد لأنه لا يعيش إلا من ذلك الفساد.

هذا الوضع يقتضي الرد السريع والحاسم والمنهجي بتأليف حزب الفقراء، وهي تسمية رمزية لمن يمكن أن يكون فعلا من حزب الفقراء، وهم الفئات الاجتماعية المقصية والمهمشة في الأرياف والأحياء الشعبية والعمالية التي تتردى حالتها الاجتماعية بسرعة الضوء في سياق ليبرالية متوحشة تهادن ولا تتراجع، وليس لديها حل للتحكم إلا المزيد من التفقير وتوزيع الخصاصة بالتساوي.

والسؤال الآن في الإمكان العملي وليس في مناقشة الضرورة.

لقد تم توزيع أموال كثيرة لشراء ذمم الفقراء المستعجلين على المكسب من نقص في الوعي، ومن جهل بالمصير خلق رغبة في الفائدة المباشرة مهما كانت حقيرة وقصيرة الأمد، وعوض الإغراق في سب هؤلاء الجهلة الإمعات للتحرر من عذاب الضمير المثقف الكسول، تقتضي المرحلة العمل الجاد على تقديم قيادة واعية تعطي لهؤلاء أملا في فائدة الانتظام والمشاركة المنتجةز المرحلة تقتضي أكثر من أي وقت مضى بناء الحزب الاجتماعي المعني، أولا برص صفوف الشباب المفقر المتحمس للثورة،  ليس على قاعدة  إيديولوجيات يسار البوبو ولا شعارات الوحدة الوطنية الزائفة، بل على قاعدة العمل الاجتماعي في الوسط الشعبي أولا، وفي وسط المثقفين المنتمين فعلا للثورة لا إلى معركة الغنائم السريعة.

الوضع في تقديري  قريب جدا من مرحلة بناء الأحزاب الاجتماعية في أوروبا في ما بعد الحرب الثانية في مواجهة برجوازية صنعتها أموال النيو ديل الأمريكي، حين لم يكن ممكنا الوقوف في وجه ليبرالية متوحشة إلا بأحزاب اجتماعية منغرسة في صفوف الفقراء، ورفع سقوف المطالب الاجتماعية التي ألزمت الدول بكفالة شعوبها، وعدم تركها تحت رحمة رأس المال. 

إنه حزب المؤتمر الوطني الشعبي الذي يشتغل وسط الفقراء ويزرع الأمل الطويل المدى.
التعليقات (0)