قضايا وآراء

عن أسباب إجهاض الربيع العربي.. صفحة من كتاب التاريخ

محمد جعفر
1300x600
1300x600
يجتهد الباحثون في محاولة لفهم وتفسير أسباب العون الغربي الكبير الذي يقدم للثورات المضادة لمواجهة الديمقراطيات الوليدة في دول الربيع العربي ووأد حلم شعوبها في العيش بحرية وكرامة في ظل نظام ديمقراطي تعددي لا يغفل هوية الأمة ويحترم خصوصياتها، ولا شك أن الدعم والإسناد والأموال الطائلة التي رُصِدت للثورات المضادة كانت كفيله بالنهوض بتلك الدول لو أنها وجهت للتنمية والتطوير. 

وفي إطار البحث لا يمكن إغفال البعد التاريخي والفلسفي للغرب الاستعماري، وهما بعدان حاكمان في التعامل مع الشرق الإسلامي، فبقاء أمه ضخمة كأمتنا في هذه الحالة المزرية قطعا يصب في مصلحة الدول الكبرى التي تسلطت على مقدراتنا تنهبها دون رقيب أو حسيب. 

وقد اعتمد الغرب على تنظير فلسفي بدأه أرسطو الذي أسس لنظرية عرقية يربط فيها الاستبداد بالشرق، مستخدما مصطلح: الاستبداد الشرقي (Oriental Despotism) الأمر الذي أضحى طائفيا فيما بعد عندما طور فلاسفة أمثال مونتسكيو هذا المصطلح ليصبح "الاستبداد الإسلامي Islamic Despotism". يقول مونتسكيو "إن الحكومة المعتدلة هي أصلح ما يكون للعالم المسيحي والحكومة المستبدة هي أصلح ما يكون للعالم الإسلامي"، ويبدو أن هذه النظريات الغربية أصبحت فيما بعد قواعد حاكمه في تعامل الغرب مع العالم الإسلامي، بل إن الفلاسفة الغربيين انشغلوا بتفسير تلك الظاهرة التي توهموها، وتعاملوا معها على أنها حقيقة. فذهب بعضهم إلى أن الشرقيين وفي القلب منهم مواطنو العالم الإسلامي ذوو طبيعة "سادومازوخية" محبة للقهر تستعذب ألم الطغاة وتحب حكم المستبدين.

 إن الدلائل تشير إلى أن الخط الفكري الغربي يؤمن بهذه النظريات ويطبقها. وكم هي المرات التي تدخل فيها الغرب لمنع محاولات جادة لتحرر الشرق من نير العبودية والاستبداد إلي الحرية والديمقراطية. إنهم عمليا يقصرون مفهوم الديمقراطية وتطبيقاتها المختلفة علي الغرب كمنتج محلي لا يجوز تعديته إلي الدول الإسلامية.  

إن عرقلة الغرب للربيع العربي ليست هي الحادثة الأولي في التاريخ بل هي واحده من اصرخ تجليات التدخل الغربي لبقاء البُأس والفقر والتخلف والمرض واليأس والإحباط ملازما للشرق ودليل آخر يضاف إلي قائمة طويلة من الأدلة المتراكمة علي النفاق الغربي والانفصام الأخلاقي إذا تعلق الحق بالأمة المسلمة.

 ولعلي أزيدك من الشعر بيتا حين سرد لك صفحة واحدة من التاريخ لتري كيف واجه الغرب إقامة نظام برلماني في مصر في الربع الأخير من القرن قبل الفائت حينما رأت إنجلترا و فرنسا أن تشكيل مجلس النواب يمثل خطورة علي مصالحهما، لأن قيام مجلس نظام برلماني سوف يجعل من التدخل الأوروبي أمراً صعباً، علي حين أن نظام الحكم المطلق يسهل أمور التدخل. و علي هذا أرسلت الدولتان مذكرة مشتركة في 7 يناير 1882 م توحي كلماتها بالاستياء من قيام نظام برلماني في مصر، و تذكر صراحة أن هذه الأحداث توجب التدخل لحماية العرش الخديوي. و بالطبع رفض شريف باشا المذكرة و احتج لدي القنصلين الإنجليزي و الفرنسي علي المذكرة.

و لما لم تتمكن الدولتان من إلغاء مجلس النواب، طلبتا ألا تتضمن لائحة المجلس مناقشة الميزانية و إقرارها، لأنها أمور تتعلق بالديون. و تحرج موقف شريف باشا، و عرض علي النواب تأجيل النظر في الميزانية حتي يفوت الفرصة علي تدخل الدولتين ، غير أن العرابيين تشبثوا بحق المجلس في إقرار الميزانية باعتبار أن ذلك حق من حقوق الأمة الممثلة في المجلس المنتخب.

و أمام إصرار الطرفين علي موقفيهما من مناقشة الميزانية، استقال شريف باشا و تألفت وزارة برئاسة البارودي  الذي عين أحمد عرابي وزيراً للحربية.

و بادرت الوزارة بإعلان الدستور في 7 فبراير 1882 م و إقرار حق المجلس في مناقشة الميزانية ، و هنا أحتج الرقيبان الفرنسي و الإنجليزي و طالبا قنصليهما بالتصرف.

شعر القنصلان أن الحالة تنذر بخلع الخديوي توفيق ، و نسب إلي العرابيين أنهم كانوا يسعون إلي خلع توفيق و تعيين الأمير حليم بدلاً منه.

فقامت انجلترا و فرنسا بإرسال قطع بحرية علي الشواطئ المصرية في 19 مايو 1882 م بحجة حماية الرعايا الأجانب إذا ما تعرضوا للخطر بسبب الأزمة القائمة.

و أرسلت الدولتان مذكرة تطلبان فيها استقالة البارودي و خروج أحمد عرابي من مصر . فرفضها البارودي و أقسم مع العرابيين يمين الدفاع عن البلاد و الولاء للثورة .فما كان من الخديوي توفيق إلا أن قبل المذكرة فاستقال البارودي احتجاجاً. و قام توفيق بتشكيل وزارة برئاسته.

و بدأت انجلترا تتحين الفرصة لدخول مصر، و جاءت الفرصة يوم 11 يونيه 1882 م في شجار ملفق قام بين رجل مالطي من الرعايا الأجانب و مكاري (عربجي(مصري علي الأجرة ، فقام المالطي بطعن المصري طعنة قاتلة، فتطور الأمر إلي معارك متبادلة بين الأجانب و المصريين. و قام الأجانب بالتجمع في أماكن واحدة و التحصن بها.

و قامت انجلترا بضرب مدينة الإسكندرية في 11 يولية 1882 م بحجة أن مصر تقوم بتحصين الإسكندرية، و تعتزم غلق الميناء و حصار البوارج الإنجليزية الراسية فيه.

نزلت القوات البريطانية الإسكندرية و حاصرت قصر الخديوي لحمايته، و أعلنت الأحكام العرفية، و ربط الخديوي مصيره بانتصار الإنجليز، و انسحب عرابي مع وحدات الجيش إلي كفر الدوار لإقامة خط دفاع ثاني.

طلب الخديوي من أحمد عرابي الكف عن الاستعدادات الحربية و الحضور إلي قصر التين في الإسكندرية، و لكن أحمد عرابي رفض و اتهم الخديوي توفيق بالخيانة العظمي. و تم تشكيل مجلس عرفي لإدارة شئون البلاد بعيداً عن الخديوي.

و في تلك الأثناء دخل الإنجليز من قناة السويس، و زحف أحمد عرابي لمقابلتهم في الشرقية و تقابل الجيشان في معركة التل الكبير ، و انهزم الجيش المصري و أصبح الطريق مفتوحاً أمام الجيش الإنجليزي إلي القاهرة و دخلها في 14 سبتمبر 1882م.

ما أشبه الليلة بالبارحة ..
0
التعليقات (0)