قضايا وآراء

الأبعاد الديموغرافية لاتفاقية سد النهضة المائية

ياسر سيد معوض
1300x600
1300x600
يتعامل الكثيرون مع وثيقة سد النهضة من بُعد واحد فقط هو البعد المائي معتبرينه البعد الغاية والهدف والأمل، ولكن الحقيقة أن هناك أبعادا عديدة لهذه الوثيقة أبرزها، وممثلاً القاعدة الرئيسة لتلك الوثيقة، البعد الديموغرافي.

فقضية سد النهضة لدى أثيوبيا ليس مجرد سد يحجز الماء الغرض منه توليد طاقة تقدر بنحو 6000 ميجاوات، فهذا القدر من الطاقة لا يزيد عن ثمن الطاقة الكامنة في هضبة الحبشة بأنهارها ومجاريها المائية المقدرة بنحو 40000 ميجاوات، تأتي بهم ثانياً في القارة بعد قدرات نهر الكونغو الكهرومائية.
ولكن القضية الأثيوبية والهم الكبير الذي يمثل الشغل الشاغل لقيادتها الحالية هو نظرتهم لمستقبل أثيوبيا السكاني حينما تصبح دولة أثيوبيا سابع دول العالم سكاناً عام 2050 بمجموع سكاني يقدر بنحو 280 مليون نسمة.

فما هو الحل إذن بالنسبة لهذا العدد الضخم من السكان الذي يعيش على هضبة أثيوبيا، ويمثل في ذلك المستقبل القريب أكثر من مجموع أكبر دولتين تاليتين لها في دول حوض النيل سكاناً وهما مصر بحجم سكان يصل إلى 140 مليون نسمة، ودولة أوغندا بنحو 130 مليون نسمة؟

كان على أديس أبيبا وحكومتها أن تنظر إلى هذا الغد القريب في حياة الأمم والشعوب، وهي محكمة زمام كافة الأمور القانونية والسياسية في كيف لها أن تضع يدها بكل قوة على أهم مورد من موارد الدولة ممثلاً في مصادرها ومواردها المائية، فالمياه بالنسبة لأثيوبيا سوف تكون حجر الزاوية في كل عمليات التنمية التي ستتم في البلاد وتسعى إليها بجهد جهيد.

فلا حياة في المدن والقرى على السواء بدون كهرباء، ولا مصانع ولا عمالة ولا استثمارات بدون كهرباء، وإذا كانت أثيوبيا قد حرمت من مصادر الطاقة الأحفورية من بترول وغاز فإنها قد عوضت بمصادرها المتجددة فما المانع من أن تقوم بتصدير فائض الطاقة المولدة لديها هذا إلى جيرانها، بل إنه طبقاً لاتفاقية السد الموقعة فإن دول المصب من الدول الأولى بالحصول على كهرباء أنهار الحبشة.

ثم هل يعقل أن تكون دولة بهذا الحجم السكاني (مذكراً مرة أخرى سابع دول العالم سكاناً بحجم يصل إلى 280 مليون نسمة) ولا توفر الاحيتاجات الغذائية لسكانها، من محاصيل غذائية ومحاصيل سكرية، ومحاصيل نسيجية، إذن كيف سيكون هذا؟ أليس على حساب دول المصب؟ أليس باستخدام المياه المخزنة في بحيرات السدود المقامة على مجاري أنهار هضبة الحبشة؟

يقدر نصيب المواطن الأثيوبي من المياه بنحو 1900 متر مكعب سنوياً، وهو بذلك في رغد ورفاهية مائية، خاصة إذا علمنا أن خط الفقر المائي يبلغ 1000 متر مكعب، بحسبة بسيطة يكون حجم ما يستهلكه سكان أثيوبيا الآن، والمقدر سكانها بنحو 105 مليون نسمة، 199 مليار متر مكعب، فلنفرض أن هذا النصيب المائي مبالغ فيه ولنقصره على مستوى خط الفقر المائي، فيكون حجم استهلاك أثيوبيا من الماء نحو 105 مليارات متر مكعب، إذن يكون حجم الاستهلاك المائي لسكان أثيوبيا بفرض ثبات رقم 1000 متر مكعب في عام 2050 نحو 280 مليار متر مكعب.

السؤال الآن: من أين ستوفر أثيوبيا كل هذ الحجم من المياه؟ الإجابة يا سادة من خلال مواصلة بناء وإنشاء المشاريع على مجاري الأنهار وأنظمتها المائية في هضبة الحبشة، ليس فقط فروع النيل الممثلة في النيل الأزرق والسوباط والعطبرة، ولكن كذلك في أنظمة جوبا وشبيلي المتجهة نحو الصومال، ونهر أواش المتجهة نحو جيبوتي، ونهو أومو المتجهة نحو بحيرة توركانا في كينيا.

المستهدف من مشاريع أثيوبيا على منظومة نهر النيل فقط هو حجز قرابة 250 مليار متر مكعب، البداية هي سد النهضة المقدر سعة بحيرته بنحو 74 مليار متر مكعب، هناك ثلاثة سدود أخرى مكملة لسد النهضة تقع جميعها على النيل الأزرق وهي سدود "مابيل، مندايا، كاردوبي"، وتتروح السعة المبدئية لبحيرة كل منهم نحو 40 مليار متر مكعب من المياه. أي أن مجموع ما سيتم تخزينه في بحيرات سدود النيل الأزرق تقدر بنحو 200 مليار متر مكعب، ومن الأكيد أن هذه المياه لن تظل في بحيراتها أو أن تخزينها ليس فقط لمجرد توليد الكهرباء، ولكن لأن هناك ملايين الهكتارات من الأراضي الزراعية الخصبة متشوقة لمياه النيل الأزرق كي تنبض بالحياة، وكي تصبح مصدراً للغداء والعمل ومصدراً رئيساً كذلك لتصدير الكثير من موارد هضبة الحبشة الزراعية للخارج.

أثيوبيا لن تصدر الكهرباء فقط المولدة من توربينات سدودها، ولكنها ستصدر مجهود مزارعيها وفلاحيها من موارد زراعية غذائية ونقدية، ومنتجات ثرواتها الحيوانية من لحوم وألبان وجلود، وجميع ذلك من خلال استغلالهم لمواردهم المائية. والأمر لا يتوقف فقط على زراعة الأراضي الأثيوبية من أجل إطعام وتوفير الاحتياجات الغذائية لسكان أثيوبيا المتنامي، ولكن بعض الدول تستثمر في أثيوبيا من خلال زراعة مئات الآلاف من الهكتارات لتوفير احتياجات سكان دولها الغذائية من قمح وأرز وذرة، وتأتي السعودية على رأس تلك الدول. فهي دولة تعاني من عدم وفرة المياه والكافية للزراعة، ناهيك عن عدم توافر الأراضي الصالحة للزراعة، فما المانع من أن تستثمر وتستزرع في أراضي أثيوبيا وتحصل على ما تنتجه في تلك المزارع لإطعام سكانها وشعبها!

بل إن الملياردير السعودي من الأصول الأثيوبية "محمد آلعامود" صاحب المركز 116 في مجلة فوربس العالمية لهذا العام بثروة تقدر بنحو 10 مليارات دولار، يأتي كأحد أكبر المستثمرين في مجال الزراعة في دولة أثيوبيا، وبالتأكيد فإن التوجه ليس فردي ولكنه توجه حكومة، سوف يساندها بالتأكيد أصحاب الثروات الطائلة وعلى رأسهم الوليد بن طلال أثرى أثرياء العرب والعالم بثروة تقدر نحو 22 مليار دولار يأتي بهم في المركز 34 عالمياً طبقا لتصنيف فوربس.

ومن الممكن أن نتخيل حجم المياه الذي ستسهلكها الزراعة الأثيوبية في المستقبل إذا ما علمنا أن النشاط الزراعي بها يمثل نحو 47% من إجمالي الناتج المحلي الأثيوبي، المقدر بنحو 51 مليار دولار، ويعمل به نحو 80% من سكان الدولة، ويساهم بنحو 60% من صادرات الدولة الأثيوبية، حتى لو تراجعت هذه النسب، فإنه يبقى أن حجم استهلاك المياه سوف يتزايد مع تزايد حجم السكان والتنوع في الإنتاج الغذائي والإنتاج من أجل الصادرات لزيادة إيرادات الدولة وتحسين مستوى معيشة الشعب.

من المؤسف حقاً أنه في الوقت الذي كانت حكومة أثيوبيا تضع نصب عينيها مستقبل شعبها ودولتها القريب، محاولة تحقيق مشاريعها التنموية، ناهضة بوطنها ومحققة طموحات شعبها، وجدنا حكومتنا لا ترى أي غضاضة في أن نفقد حقوقنا المائية التاريخية، بل وأن نحصل على تعويض بأننا سوف نكون في قمة سلم الترتيب عند طلب استيراد الكهرباء من مشاريع أثيوبيا المائية العملاقة.

يبدوا أن قارة أفريقيا لن يكون بها عملاق واحد ولكن سيكون بها عملاقين كبيرين، واقصد بذلك نيجريا وأثيوبيا. الأولى تحتل المركز الرابع من حيث السكان والثانية تحتل المركز السابع وذلك في عام 2050، ولا يخفى على أحد أن معدلات التنمية المتواصلة بتلك الدول ترفعها إلى مصاف الدول الأكثر نمواً واعتبارها من أكبر الأسواق الاقتصادية في المستقبل، لك أن تتخيل أن معدلات النمو في أثيوبيا تقدر بنحو 7% ومرشحة مع مشاريع أثيوبيا العملاقة هذه أن تتزايد وتستمر، والحفاظ على هذا المعدلات لفترات طويلة يحقق تنمية حقيقية ومؤكدة، وهو ما تسعى إلى تحقيقة حكومات أثيوبيا المتعاقبة، ومحاربتها لمصر على مدى عقود وإصرارها على رفض حقوقنا المائية التاريخية والمكتسبة في مياه النيل، لأكبر دليل على رغبتها في توفير قاعدة صلبة تبني عليها نموها في المستقبل.

في النهاية يبدو أن الفقر المائي الذي يعاني منه المواطن المصري الآن، حيث يقدر نصيبه سنوياً بنحو 860 متر مكعب، سوف يتحول في المستقبل القريب إلى عوز وندرة مائية، فإذا كنا الآن وبحصتنا المائية المقدرة بنحو 55.5 مليار متر مكعب نعاني من عجز يقدر بنحو 15 مليار متر مكعب، حيث أن حجم استهلاكنا من المياه يقدر بنحو 70 مليار متر، وهذا الحجم في تزايد مع زيادة حجم السكان، فما بالنا بأن حصتنا المائية هذه سوف تفقد على أقل تقدير 15 مليار متر مكعب، فما هو الموقف، في ظل زيادة سكانية مؤكدة، ورغبة في استصلاح ملايين الأفدنة لتوفير الاحتياجات الغذائية للسكان، ناهيك عن الاحتياجات للمياه في المشاريع الصناعية والتنموية المختلفة، أضف إلى هذا أننا سوف نلجأ إلى احتياطينا المائي في بحيرة السد العالي، والمقدر بنحو 164 مليار متر مكعب، والذي سنسحب منه على المكشوف كما يقال في الاقتصاد، ولن نتمكن من تعويض ما نسحبه، الأمر الذي يعني أن بحيرة السد العالي، بحيرة ناصر، بمساحتها البالغة 5000 كيلو متربع، وامتداد يصل إلى 500 كيلو متر، سوف تصبح أثراً بعد عين، الأمر الذي يجعل سد النهضة وبالاً على مصر، وخيراً على نوبييها، الذين يمكن لهم الآن أن يعودوا إلى أوطانهم، سواء في النوبة المصرية أم السودانية، بعد عملية تهجير قسري استغرقت قرابة ثلثي القرن.
التعليقات (0)