كتاب عربي 21

ليلة السقوط!

طارق أوشن
1300x600
1300x600
الوقت صبيحة، والزغاريد تملأ المكان وكأنه يوم فتح مبين. تظهر النسوة على شرفات شقق العمارة ويبدأن في نشر الغسيل. هي ملابس عسكرية لقوات المشاة في الجيش الأمريكي. لكن ما الذي حل بالجنود أصحابها؟ أ قتلى هم أم معتقلون أم مخطوفون؟ لا هذا ولا ذاك، فما هي إلا ملابس مستنسخة لزوم استثارة "فحولة عربية" تراخت بفعل الواقع المرير الذي تعيشه الأمة وترزح تحت وطأته يوما عن يوم، ورمزا لليلة سقوط أخرى كرس خلالها المارينز دخولهم غرف النوم العربية بعد أن استباحوا الدين والمال والأعراض.

في مشهد آخر من فيلم "ليلة سقوط بغداد" يدخل الناظر شاكر على جمع من جيرانه اعتادوا التدرب على السلاح، داخل قبو العمارة حيث يسكنون استعدادا لليوم الموعود، ليعلنها أمامهم صريحة بعد أن فقد الأمل في إنتاج وتصنيع سلاح ردع مصري لمواجهة الزحف الأمريكي، الذي يراه قريبا، على قاهرة المعز: "إحنا كنا بنحاول نخترع حاجة علشان تكون عندنا كرامة. لكن يؤسفني أن أبشركم أننا حنفضل من غير كرامة. يؤسفني أن أقول لكم أنه في أية مواجهة قادمة، الحل الوحيد لدينا هو أن ينزل الواحد منا على ركبه وينظر إلى العدو باحترام ويتوسل إليه، رجاء لا تغتصبني". يجلس الجميع على ركبه أمام مجسمات الجنود الأمريكان في وصلة توسل جماعية.

في العام 2008 وخلال القمة العربية المنعقدة وقتها بدمشق، أخذ العقيد معمر القذافي الكلمة وتوجه إلى "زعماء" العرب بكلمات قاتلة اعتبرها البعض وقتها واحدة من مستملحات الرجل: "قيادتان عربيتان تقتلان [يقصد صدام حسين وياسر عرفات] ولا تحقيق يفتح في الموضوع. والله سيأتي دوركم وستساقون الواحد تلو الآخر إلى المقصلة". لم تمر إلا ثلاث سنوات حتى وجد العقيد نفسه مطاردا داخل ليبيا، بدعم من طائرات الحلف الأطلسي،  قبل أن ينتهي به المطاف مهانا ومقتولا كما وثقته كاميرات "الثوار" يومها. أما عدد من "الزعماء" الحاضرين للقمة ذاتها فملفاتهم لدى المحكمة الجنائية الدولية طبخت وتطبخ على نار هادئة.

شهر يناير 1492، وبعد سقوط غرناطة، آخر القلاع الإسلامية بالأندلس التي استمرت ثمانية قرون، وقف الملك أبو عبد الله الصغير فوق هضبة البادول، ناظرا إلى مملكة غرناطة، يبكي بحرقة ضياع هذا المجد، فزادته أمه كمدا بقولها: "إبك كالنساء ملكا مضاعا لم تحافظ عليه مثل الرجال". سقطت غرناطة فنهبت ممتلكات المسلمين وحرمت ممارسة الشعائر الدينية عليهم كما التحدث باللغة العربية، وانطلقت محاكم التفتيش وحملات التنصير الإجباري والتهجير القسري، وحدد المنتصر هدفه في محو ذاكرة المهزوم لتحرق ملايين المخطوطات باستثناء المخطوطات العلمية التي استفيد منها لاحقا. لكن أهم ما أفرزته ليلة السقوط الأولى كان ظهور ملوك الطوائف الذين استعانوا بالقوات المعادية في مواجهة بعضهم البعض طمعا في مزايا ملك وهمي بحماية أجنبية، فظهرت في الأندلس أكثر من عشرين دويلة تساقطت كأوراق الخريف الواحدة تلو الأخرى. وعندما أحس المعتمد بن عباد بالخطر الداهم استنجد بدولة المرابطين بالمغرب فكانت معركة الزلاقة فاصلة. لكن المعتمد عاد إلى حياة الفجور والانحلال التي ميزت مجالس علية القوم الحاكمين. وكانت النهاية..

في مقهى فيلم "ليلة سقوط بغداد"، العيون شاخصة إلى تلفاز يقدم لقطات للقوات الأمريكية تنتهك الحرمات بالعراق.

الناظر: يا ترى ممكن الأيام تلف ويحصل معانا زي كده؟

النادل: والله ممكن.

مواطن، يتصحف مجلة النيوزويك: يا عم خليهم يجوا. خايفين من إيه؟ والله حينظفونا.

الناظر: انت فاكر أنهم لو جم حينظفوك؟

المواطن: أنا عارف أن فيها خمس أو عشر سنوات صعبة، لكن بعدها سنلحق بالعالم الحر.

مرت أكثر من عشر سنوات على سقوط بغداد ولم نر للعالم الحر عندنا تجسيدا. 

كانت أولى خطوات الأمريكان لحظة دخول بغداد إسقاط وهدم تمثال صدام حسين الحديدي، وبعده نهبوا المتحف الوطني العراقي وكل بقعة وطئتها أقدامهم وتاجروا بالآثار وهربوها. اليوم، "يجاهد" مقاتلو داعش في التراث الإنساني على وقع بكائيات العالم الحر. وكما تنبأ الفيلم، أحرق المتحف المصري بالتحرير لكن الأمر تم بيد العابثين من أبناء البلد الذين لم ينتظروا وصول الغزاة المحتلين. ولأن محاكم التفتيش لازمة لكل سقوط، فقد كان "اجتثاث البعث" شعارا لمرحلة كاملة أفرغت مؤسسات العراق وأضعفتها وعلى رأسها الجيش، الذي صار يستنجد بميليشيات الحشد الشعبي وعلى منواله صارت جيوش المنطقة تستنجد ب"المواطنين الشرفاء" ضد جزء من شعوبها. وكما تراقصت شخصيات الفيلم على إيقاعات "خلي السلاح صاحي" و"يا حبيبتي يا مصر" وغيرها من الأغاني "الوطنية" في حفل عرس بطلي الشريط، تحقق الأمر فعليا على أرض مصر وصارت الزيجات تعقد على نغمات "تسلم الأيادي"، بل فتحت القوات المسلحة المصرية قاعاتها لعقد قران "زعيم ثورة تمرد"، الذي اكتفى في الأخير بقطعة أرض مسلمة بقرار جمهوري لبناء مصنع بسكويت مدرسي. لقد تغيرت اهتمامات العسكرتارية العربية من حماية الحدود إلى تقتيل الشعب وسحل البنات في الشوارع وهتك الأعراض بدعوى كشوف عذرية على الناشطات في تنافس مع شعوب عرت بناتها في الميادين احتفالا بانتصار "ثورة مجيدة" أسقطت "المنتخب" وأعلت شأن الانقلاب.

بعد أكثر من عشر سنوات من سقوط بغداد، صار لكل دولة من دولنا حكومتان أو ثلاث في الداخل والمنفى وفي الجانبين الغربي والشرقي، وفي بعضها برلمانان أو مقاعد رئاسة شاغرة أو مسيرة من فوق كراسي متحركة أو أسرة مستشفيات خارج البلاد. وعلى الساحة مليشيات أو أحزاب "مسلحة" تحدد المصير تسريعا أو تعطيلا. هي تجربة ملوك الطوائف تتكرر من جديد. لكن المصيبة أعظم، فلم يعد هناك من دولة مرابطين يمكن الاستنجاد بها في حرب أو عاصفة حزم أو رد عدوان. وحدها إيران فهمت المعادلة وأعدت العدة للتفاوض من موقع قوة لتملك مستقبلها تاركة العرب يلتهون بـ"محاربة" المليشيات، فسلاح ردعها نووي.

مواطن 1: مين قال أنو معندناش سلاح ردع؟

الناظر: يعني احنا عندنا؟

مواطن 2: طبعا. بس واضح أننا مقفلين على السر ده كويس أوي. أنت فاكر يوم ما الكهرباء قطعت عن مصر كلها يوم بحالو؟ يومها كانوا محتاجين الكهرباء علشان يخصبوا اليورانيوم.

مواطن 1: عارف السحابة السوداء التي تلف البلد من كم سنة؟ انت فاهم أنها تلوث وهبل كده يعني؟ لا، ده اشعاع طالع من التجارب النووية إيلي بنعملها تحت الأرض من ورا العالم.

الناظر: يا ريت.

مواطن 1: إيه يا ريت ده؟ يعني ممكن يكون معندناش؟

الناظر: أعتقد ذلك.

مواطن 1: إحنا لو معندناش كنت حتلاقي حمى في العلم والتفكير والإنتاج. إنما الهدوء واللامبالاة إيلي إحنا فيها بتاعت ناس أكيد عندها أسلحة ردع.

يقرر الثلاثة سؤال "لواء" يسكن الحي. واللواء هنا مجرد اسم مجاملة وليس رتبة عسكرية.

"اللواء": احنا عندنا إرادة ، عندنا إيمان، وربنا يتولانا برحمته.

الكهرباء تقطع يوميا بمصر وبالعراق، الدولة النفطية الكبرى، كما كثير من الخدمات التي كانت قبل الغزو متاحة للعموم. والسحابة السوداء مستمرة بل تفاقمت. أما "اللواءات" فقد صاروا "زي الرز" في الفضائيات يحللون ويدبجون الخطابات، بل صار للمشير برنامج خاص يبث على كل القنوات، و"ربنا يتولانا برحمته".

يتعالى الصراخ من وراء السور الحديدي لمدرسة المستقبل. يحضر الناظر بسرعة فيعلم أنهم التلاميذ يرغبون في القيام بتظاهرة تأييدة لبلد من بلدان المنطقة ردا على التهديدات الأمريكية. يهدئ الناظر من حماسة الشباب قبل أن يسمع اللازمة المكرورة من الداخل: يا ناظر يا عرة. يطلب منه ممثلو الطلبة ترخيصا لكتابة لافتة مؤيدة للبلد المعني. اللافتة موجودة على سور المدرسة منذ سنوات، وعلى وقع توالي أسماء الدول المهددة يفتحون القوس لإضافة الاسم قبل إغلاقه مجددا إلى حين. لم يعد القوس قابلا للإغلاق فترك مفتوحا، وتراه لا يزال كذلك حتى اليوم.

وحين عاد الباحث طارق، أمل الأمة المكرس لعقلية مجتمع عربي ينتظر القائد المغوار الملهم، من تظاهرة أمام السفارة الأمريكية، أطلق جملته المعبرة : أنا ايه إيلي وداني مظاهرات. ده أنا جدي راح مظاهرة في ثورة 1919 ولم يعد حتى اليوم.

لا يزال كثير من المتظاهرين بالبلدان العربية لا يعودون إلى ذويهم ويبقى مصيرهم مجهولا إن لم يتم قتلهم في عربات ترحيلات السجون. لكن ما الذي تنتظره من شعوب لا تجرأ على كسر باب حديدي مهترأ للإعلان عن موقفها، أو "نخبة" وجدت في سلاليم نقاباتها ساحة لممارسة ترف "تظاهر صامت"؟  ومن لديه إحساس بالإحباط فلن يجد غير الشريط الذي سلمه الناظر لطارق، وهو ينصحه بمشاهدته كلما أحس بمعنوياته تنخفض، باعتباره جامعا لأهم لحظات الفخر الذي عاشته مصر منذ حرب اكتوبر حتى يومها. لم يحوي الشريط غير مقابلة كرة قدم لمنتخب مصر بكأس العالم فهذا أعظم ما حققته البلد على مدار عقود. وليست بقية البلدان بأحسن منها حالا على كل الأحوال.

يزيد طارق الجرح إيلاما حين يواجه الناظر ومعه الأجيال السابقة: يا أستاذ، إنتو مسلمينا ليهم بدون ملابس داخلية. مسلمينا ملط يا حضرة الناظر يا بتاع التاريخ".

لم يعد أمامنا إلا أن نصعد إلى سطح عمارة فيلم "ليلة سقوط بغداد" لننضم إلى ساكنيها وهم يفترشون الأرضية المزينة بألوان العلم الأمريكي، إحدى أركان خطة الخداع الاستراتيجي التي تذكرنا بذاك الاجتماع "السري" المنقول مباشرة على التلفزيون المصري لمناقشة كيفية الرد على انطلاق الأشغال بسد النهضة، وهم يبتهلون إلى المولى عز وجل "سلاح ردع يا رب، سلاح ردع يا رب".
"ربنا يتولانا برحمته"، كما قال سيادة "اللواء".

[email protected]
التعليقات (0)