قضايا وآراء

عن أستاذ أدب إنجليزي مجهول وعاديّ

محمود الفقي
1300x600
1300x600
في 1999-2000 لَحِقْتُ كليةَ اللغات والترجمة بالأزهر سعيداً بشعبتها الجديدة "دراسات إسلامية بالملوخية – أو الإنجليزية"، للنجاة أخيراً من الفصام النكد بين علوم الدين (خير العلوم في التصور الإسلامي) وعلوم الدنيا التي تخدم الإنسان.

فالأُولى عَوَّام في بحرٍ ذاخرٍ من الحشو وعلم الكلام الذي أضاع هويةَ الإسلام لأنها تخدم الله ولو كانت غيباً أو سمعيات لا تؤخذ إلا بالسماع، ولأن عمومَ النفع فيها مما لا يُستراب فيه كما يقول أبو حامد الغزالي، رغم أن قصارى الجهد فيها لتحصيل لقب العلَّامة هو الحفظ والتسميع!

أخيراً سأرى من خَبَرَ الحضارة الغربية وكان بالأصل أزهرياً عليماً بالتراث وما فيه من جوانب مضيئة كابن الوزِّ العوَّام محمد عبد الله دراز، لكن المسخرة التي رأيتها في هذه الكلية الرديئة جديرة بالتسجيل تعميماً للفائدة، وإلا فأنا أدعو على ابني وأكره قولَ آمين. 

كانت أول محاضرة لرئيس القسم الحالي د. صلاح النفيلي، وكان معجباً بنفسه تيَّاهاً، ورطن بإنجليزية معجمية مستثقلة، وكان مفرط الحركة معتل المزاج فلم أفهم غير المعنى العام؛ كان يشرح رسالته للدكتوراه التي شرَّف بها مصر في أمريكا وكلفت المصريين مليوني جنيه، وما أذكره من عنوان الرسالة أنها كانت في الرواية أو القصة، وتقريباً كان عنوان القصة موضوع البحث الدجاجة المطلقة؟ الأرملة؟ الحزينة؟ واديفر، لكنه هدد باستعلاء التنِّين وقال: أيها المشايخ الأزهريون من لم يفهم على الأقل 85 بالمائة أو قال 99 (شكٌّ من الراوي) فليَغُرْ إلى الدرَّاسة (تَعْييراً، لأن الدرَّاسة محضن الكليات الشرعية أما مدينة نصر التي بها الكلية فهي موطن الحداثة!).

اللافت أنه في كل مرة يتلو آية قرآنية كان يرتكب جرائم لغوية، وكان ضعيفاً جداً في اللغة العربية مع أنه الشاعر صاحب الدواوين!

لكن بطل القصة هو د. عبد العظيم سويلم أستاذ النقد الأدبي ورئيس القسم وقت قصدته في السنة الثانية وزملائي أشكو -أنا لكوني صاحب الفكرة- من غياب الأساتذة حيث لا جدول أو محاضرات أو مناهج أو أي شيء، وعملت بنصيحة أستاذ أنبأني أن سويلم وغيره أنصاف آلهة فخاطبته مُتَليِّنَاً له فبادر بخلع حذائه وجرى ورائي قائلاً: أهو ده اللي ناقص يا ابن الكلب! فعدوْتُ وزملائي كالفأرين جادْ وجوزْ جوزْ هرباً من القط مشاكس في كارتون سندريلا.

وقد طبعت هذه الإهانة في نفسي وجعاً محرقاً وكاسراً، ولما واساني أصحابي قلت اللهم اكسره! وحدث فعلاً وكُسرت ساقه فظل بعاهته حتى مات من مضاعفات السكري والضغط، وقد قلت يوم الكسر لأصحابي في سياق دراستنا للترجمة: إن الله تعالى أراد أن يرسم البسمة على وجهي فترجم دعائي حرفياً!

ثم بعد 11 عاماً، وفور تسجيلي الدكتوراه التي استغنيت عنها الآن، وجدته وقد فعل به الزمن الأفاعيل وحده يشرب الينسون في مكتبه المشرف على دَرَج متهالك وشجر قتيل وأبنية قبيحة فرقَّ قلبي له فدخلت عليه مستئذناً وقلت: يا دكتور حضرتك شتمتني من 11 سنة وشكوته لنفسه بعتاب الابن لأبيه فوجدته وقد دمعت عيناه معتذراً وأكرمني وبهرني بدررٍ غَوالٍ من ثقافته الرفيعة ثم شكا لي مُرَّ الشكوى من بلطجة الأساتذة وأنه فعل المحال وحوَّل بعضهم للتحقيق لكن كثيرين منهم جهلة تكاثروا عليه، بل وكان رئيس شعبتي الذي فتحت له الجامعة ذراعيها وأعطته ترقية غير مستحقة قد استغل الشعبة لتلميع نفسه إعلامياً ولا أدري (الكلام كله له) لم كل هذا التكالب المريض على الشهرة والمتاجرة بما لم يتحقق، وترك الأقسام خراباً ينعق فيه البوم، ثم لمَّا أسندت الجامعة إلى رئيس الشعبة مهمة إدارته استعان بكل أصحابه من المنخنقة والموقوذة والمتردية والنطيحة وما أكل السبع وما عاف السبع أن يأكل فوُلدت الشعبة ميتة، ولعلك لاحظت فداحة الأخطاء في القواعد وهجاء الإنجليزية حتى في ورق الأسئلة في الامتحانات...يا للعار!

أذكر من المشاهير من أساتذتي الذي أحمل له تقديراً لحسن خلقه الدكتور محمد الشحات الجندي وكان يكرر كثيراً أثناء محاضرته (they is) ثم لا يشرح من أصول الفقه أو تاريخ التشريع إلا ما نقله من كتب قديمة لا أدري لماذا كلف نفسه عناء التكرار إن كان بالإمكان قراءتها ذات عصريَّة على السكة الزراعيَّة!

ثم ما سر الانبهار بأصول الفقه المستند إلى منطق الأشياء وبدهيات الأفهام؟ أذكر أني قرأت لكهف الأئمة الفضلاء وزبدة نحارير العلماء (كذا وصفه المحقق عمر سليمان الأشقر في جزء من لقب من أربعة أسطر!) ابن بهادر الزركشي في "البحر المحيط" مستهلاً كتابه بالجواب عن سؤال بدهي عن كون أصول الفقه علماً بدأ كاملاً واحترق (كالعَروض)، وأنه نِتَف مجموعة من اللغة العربية والحديث والتفسير لا وحدة قائمة بذاتها، والشيء يُذكر بالشيء كالتحذلق بالكلمات الرديئة مثل محاضرة أوجب عليَّ رئيس إسلام أون لاين الإخواني أن أحضرها لمن وصفه بالعلامة في أصول الفقه الذي ظل يضرب رأسي بمطرقة الاستطراد والترسل والأحاجي والألغاز في باب الأدلة والأحكام في موافقات الشاطبي لكنه ألحَّ بسؤالي: تعرف يا شيخ ما معنى محاشي النساء؟ ويضحك ثم يعيد السؤال مراراً وتكراراً، ثم أرد بالمثل الفرنسي: لا تضرب المرأة بالوردة..حتى لا تؤذي الوردة! ثم يعيد الكَرة، ثم لا أفهم معنى الكلمة إلا وأنا أهمُّ بالخروج فأقول: يا ابن الكلب! أقصد أبا حيان التوحيدي الذي حشا البصائر والذخائر بهذه الأمثلة النجسة وتحديداً لمَّا قال: "فعلاها يحشوها وهي ساجدة"، آه يا ولاد ديك الـ... يا ولاد فرخة الـ....!

لقد حرمني رئيس إسلام أونلاين الإخواني من العمل لكوني لست إخوانياً، وكثيراً ما ذقت المرار وعانيت دقات النقص وأُضرت في رزقي من بعضهم لكوني غير إخواني لكن ما علينا، فلنعد إلى الدكتور سويلم الذي كشف لي من حكيم الآراء وبارع الآداب ما انفكَّ عندي مَسْلاةً وربيعاً وأنساً، فقد واصل حديثه الماتع عن أستاذه مجدي وهبة أستاذ الأساتذة بآداب القاهرة وكيف أنه تعصب للفاشل ماهر شفيق فريد فساعده كثيراً علمياً ومهنياً وإدارياً لكونه مسيحياً مثله وكذا الحال مع سمير سرحان، وكيف أنهم حتى لو أبدوا وداعةً ولِيْناً فهم يتحيزون لبعضهم، وهذا طبيعي، وحكى لي عن الدكتور عناني، ولربما أعود في ظرف آخر لأحكي بعضاً من أسرار هذا اللقاء الشيق لكن غايتي أن أترحم على هذا الرجل الذي مات قبل أقل من شهر بعد أعوذ بالله من شر الرأي الدَّبَري الذي أضاع مصر وأفقدنا الحلم بعد الحلم وأورثنا الألم عِوَضَ الأمل، رحم الله الدكتور سويلم وعلى رأي الأخْطل (بالخاء لا الهاء، ومعناها أبو ودان طويلة) في البيت التالي الذي أخطأ المبرد في "الكامل" لما نسبه إلى الخليل بن أحمد الفراهيدي:

وإذا افتَقَرْتَ إلى الذَّخائِرِ، لمْ تجدْ.. ذُخراً يكونُ كصالحِ الأعمالِ
3
التعليقات (3)
علاء الدين عبدالحميد
الثلاثاء، 01-09-2015 03:43 م
ممتع حقا القرءة لمثلك يا دكتور محمود وفقك الله
Talaat Farouq
الجمعة، 28-08-2015 03:32 ص
أخي محمود .. ليس مجهولا وليس عاديا .. محترم أكاديميا رغم مثالب شخصية لا يسلم منها إنسان .. وما أدراك أن إصابته كانت استجابة لدعاءك .. وما حجم ذنبه - رغم عظمه - مقابل إصابته .. وقد يكون ما تسميه عقابا، ابتسمت له، طهورا له .. لقد خلطت الاحداث بصورة مخلة .. وأعذرك لافتقادك للصورة الكاملة .. أما التشهير بالناس على الملأ فهو وإن أشبع لديك غريزة قد أظهر فيك نقصا تنتقدهم ?جله .. تحياتي لك ودعاءي أن يلهمنا الله السماحة بنور المعرفة
جزائري
الجمعة، 01-05-2015 11:55 ص
ممتع

خبر عاجل