قضايا وآراء

مَنْ الذي أفقد الإنسانَ ذائقةَ القِطَطِ؟!!

عبد الرحمن الدويري
1300x600
1300x600
فرضت نفسها، حتى صارت جزءا من العائلة، جاءتنا لاجئةً مستجيرةً، قبل شهور، لا مِن براميل بشار، ولا من رُعونة السيسي، وأمن دولته، ولا من أوهام كربلاء يُديرُ طقوسها قاسمٌ السُّليماني، في عواصمنا المُتَرَمّلة، على الهُويّة؟!!

جاءتنا بها "أليكسا" وأختاها:  "فلحاء وهدى" زَفْرَةً من زفرات كانون وشباط.. كانت ترتدي ثوبَ الصقيع، وتشربُ البرَدَ، وتتنفسُ الجليدَ... مَاءَتْ خلفَ شُبّاكنا، ونحن نَستدفئ ببعضنا في جَمْعَةٍ أسرية، قلَّما أن نَظفرَ بمثلها، في معركةِ حياة نُدحرجها مرة، فتدحرجنا ألف مرة، في ظل "الغرغرينا" التي تَسببتْ بها سياسات الدولة الاقتصادية، فأكلَتْ أطرافَ دَخْلِنا الشهري، حتى زحفَ على بطنه، وما عادت الألفُ منه إلا كقطرة تُبقي الرَّمق، وتؤجل الكفن إلى حين، في الوَقت الذي كانت فيه العائلةُ تعيش بمئة وعشرين دينارا كريمةً، قبل بضع سنوات، لكنّ شيئا ما تغيّر، فإذا بالنَّحْسِ يُعششُ في أوْصالِنا!!

مَرّت الموجةُ، واعتادت علينا "فُنْفُنُ" -كما يُسمّها الصغار- واعتدنا عليها.. تقاسمنا معها العيش.. تَنتظرُ صوتَ مُحركِ السيارة، لتسبقَنا إلى البابِ، وهي تُقَسِّمُ بذيلها التّحيةَ على الجميع.. تَعْبُرُ مِن بين أرجلنا مُحتكة بسيقاننا، في درس جماعي عن كيفية لقاء الأحبة.. وكيف يكون الاحتضان والالتصاقُ عنوانَ شوقٍ، وبريدَ محبةٍ ومودّةٍ.. لكنها تبدو مختلفةً هذه المرة، فَعلامات الحَملِ باديةٌ عليها!! 

قبل أسبوع أطلَّت علينا مِن شباك المطبخ.. لا أدري لمَ شعرتُ أنها تَرجونا أن لا نغادر، لكنَّه الدَّوام.. قدَّمنا لها ما جادت به يدُ الله علينا وعليها، وغادرنا.. وفي نهاية اليوم، كان الأولاد قد سبقوني، وإذا بهم يتجمهرون حولي فرحين: بابا بابا: "فنفن" أنجبت أربع "فنفونات" جميلات،  لكنها تبدو مريضة!!

سابقتُهم إليها، وانتابني ذات الشعور الذي كان آخر عهدي به، قبل تِسع سنواتٍ، حَيث كانت "ياقوتةُ" آخرَ ما وهبَتْهُ لنا أمّ البنين من كلمةُ الله في ثَوْبِها.. نعم، قد يبدو هذا الشعور مُستغربا، لدى البعض!! لَكنَّهُ النّفاسُ الذي كتبتْهُ إرادة الله على المخلوقات، فاقتسمتهُ الإناثُ كُلاًّ بالقدرِ الذي تَصلحُ معه الحياة!!

كانت مع صغارها، تحتضنُهم بدفءٍ، أُمًّا كاملة الأمومة، بينما غابَ القطُّ الذي مارس أبوَّتَهُ ليومين، أو ثلاثة، تاركا إيّاَها لتمارس هي طقوس الوفاء وحيدة، وتعصرُ مِن أَلَمِها حياة في الأفواه الصغيرة، التي فَتَحَتْ من حياتها صفحتها الأولى، على نموذجين اثنين: الوفاء المطلق، وعابر السبيل، الموجود في الخلائق كلِّها، وتطلبُ منا أن نختار من بينهما نموذجنا!!

أخذتني الحَمِية، وجَرت في عروقي النَّخوة -واكتشفتُ لحظتها أنها أصيلةٌ في نفسي- فبادرتُ لأقرب محلٍ لبيع المجمّدات، وطلبتُ منه أرخص ما عنده مما يصلح للقطط، فنصحني بالسردين الرَّخص، ثلاثَ حباتٍ بدينار، فأصررتُ على اللّحمة، فناولني أصابعَ مِن اللحم المفروم، الواحدُ منه بنصف دينار، فأخذتُ ما تيسَّرَ، وَحبةً من سردين للتنويع، وعَمَدتُ لِصحنٍ من الفَخّارِ -لا نستعمله- وأفرغتُ لها عُلبة السردين، فأكلتها وعيونها تشكرنا، ويرفرفُ حولها دُعاء يَرتفعُ، تشّرَّبتْهُ أرواحنا فَأَنِسَتْ له، فدُعَاءِ ذات الأكبادِ الرَّطبة لا يُردُّ... وتَعشّتْ معنا مما تعشّينا منه، وبِتْنا ليلتَنا هانِئِينَ، وقدْ صارتُ أسرتُنا اثنتي عشرة نفساً!!

مع الفجرِ وسَبَحَاتِه، نَهضنا مستغفرين مهرولين، نسابق الزمن لتوصيلِ العيال لمدارسهم وجامعاتهم، وعُدتُ -وأنا أقربُهم دواما- لأقومَ بواجب الضيافة، فقسمتُ أصبعَ اللحمة نصفين، وشوّحتُهُ بالزيت والبهارات، وقرّبتُه لها -بعد أن بردَ- فشمّتْهُ بأنفها، ثم نظرتْ إليَّ نظرة انكسار، وأشاحتْ بوجهها بعيدا.. لم تأكل منه لقمة... يا الله!! هل أو جستْ في نفسها شيئا؟ أم أن الطعامَ دون المقام؟! فعُدْتُ إلى الثلاجة، وقدّمتُ لها اللحمَ نيّئا بلا طبخ لَعلها تأكله، فأشاحَتْ بوجهها مُجددا، واضطررتُ للمغادرة!!

عُدت ظهرا، فإذا الصّحنُ على حاله!! حَملتُ الأصابعَ المتبقية، شاعرا بالعار، وعُدتُ إلى صاحبِ المحل مُعتذرا ، لعدم قبول النصيحةِ، واستبدلتُها بعلبٍ السردين لنحفظَ ماءَ وجهنا مع ضيفتِنا العزيزة، التي كمْ أهدَت إلينا من الدُّروس، وفي رأسي:

إذا كانت القطط لا تأكل هذا اللحمَ، ولا تقربُه-لا نيئا ولا مطبوخا- فما معنى أن يقول لي صاحب المحل: "الله وكيلك منا أنا ملحّق على الناس كراتين"؟!!

يا الله: مَنْ الذي أفقدَ النّاس ذائقةَ القِطَطَ، حتى يُقبلوا على هذا اللحمِ هذا الإقبالَ؟!! وما معنى أن تأبى القططُ تناولَ لحمٍ يتناولُهُ مُواطننا، بلا أدنى تمييزٍ لمعنى التَّذوقِ أو اللتلذُّذ بالمأكولِ؟! مع أن ذائقةَ القططِ أدنى مستوىً وَرُقِيًّا من ذائقة الإنسان؟! إلا أنها ذائقيةٌ بَقَيتْ فِطرية، لم تُصَبْ بالعَطَبِ بعدُ، وربما تُفضّلُ معها الموت، ولا تأكلُ ما لا يمكن، ولا ينبغي أكلُه؟!! 

ألهذا الحدِّ بلغَ بنا الجشعُ؟! وَنَبَتَ فينَا الغُولُ الذي لا يرحمُ.. يَجُوْسُ خلالَ الدِّيار، وَيَجُوبُ ما وراء البحار، ليعودَ لنا بالمرض: يَسْتَنْبِتَ في إنساننا السرطان، ويُلَغِّمُ عروقَه بالجلطات، وهو وادعٌ شاكرٌ مستسلمٌ مُمْتنٌّ؟!!

التّذذُ والذائقةُ حاسةٌ في الفمِ واللسانِ، يشعرُ بها الإنسانُ فطرةً، بشكلٍ طبيعيٍّ، فيستحلي ويستوذوقُ ويتمتع، لكنه حين يفتقدُها، فإنه يَتَحايلُ ويُخادِعُ، ويُقنعُ نفسَهُ بما ليس موجودا!!

في بيئة الابتزازِ بالرُّعبِ، و في فلسفة الاستبداد، تتعاضد القوى كلَّها؛ لتقمعَ في الإنسانِ إنسانَه، فتختبئَ كلُّ خصائصه الطبيعية وتتوارى، وتَحُلُّ محلَّها خصائصُ جديدةٌ خادعةُ، تلبسُ أقنعة، فتُقْنِعُه: إنك بخير، والأوضاع تمامُ التمامِ، وانظر من حولك: إنّك تجدُ كِفايتَك، وتعيشُ آمناً مُستريحا، فاحمد الله، وكُلْ مما يُقدّمُ لك بصحنِ الفَخّارِ، وقُل في نفسك إنه لَذيذ... لذيذا جدا، ستشعر فعلا أن لذيذ، خصوصا على أسياخ الكباب، ثم اشكر لمن سهروا عليك حتى أدخلوك في عالم المُتعة هذا !!

قمْ وارجم معنا مَن يُحدّثك عن السِّيادة والديمقراطية وحقوق الإنسان، وسلطة الشعب، التي لا تجيء إلا بالفوضى، وخراب البيوت، فكل الذين يضحكون عليكم بها متآمرون عليكم وعلى الوطن، يريدون مصالحهم، ولو كانوا نخبة الشباب وأساتذته ومثقفيه، ونحن لا مصلحة لنا إلا راحتُكم وأمنُكم وشِبْعَةُ بطنكم؟!!

هنا أجِدُني مُضْطرا -وربّما أنتم- لأقول بالمقابل: قوموا بنا، وارفعوا معي القُبَّعة لأمة القطط، فإنها تُعلمنا دروسا في الحياة.. في كل مناحيها، لا، ولم يَتَسَنَّ لِمَنْ يعيشُ في حظيرة العبودية أن يستذوقها!!
قُوموا اسألوا عواصمكم عمّ حلّ ببعضها، وما سَيَحِلُّ، ولا تَنْتَظِرُوا الإجابة!!!
0
التعليقات (0)

خبر عاجل