قضايا وآراء

وطنية أم نفاق ومصالح

خليل المقداد
1300x600
1300x600
من طبيعة النفس البشرية أن تستأنس بالمديح والثناء فتطرب له، وهذا أمر طبيعي جبلت عليه الأنفس وإن بمستويات متفاوتة، فالبعض يحب أن يسمع المديح حتى وإن كان كذباً أو في غير محله، وفي المقابل فإن النقد والذم موحش مكروه حتى وإن كان نقدا في محله، والبشر في هذا الأمر أصناف.

لكن مما لا شك فيه أن مجتمعاتنا العربية عموما والسوري خصوصا قد عانت ولعقود طويلة من كبت للحريات وتكميم للأفواه فلم تعرف إلا التطبيل والتزمير وحرية المدح المباح الذي فرضه إعلام رسمي حكومي كرس سلطة الحاكم الإله المنزه عن الخطأ، فمارس سياسة (ما أريكم إلا ما أرى وما أهديكم إلا سبيل الرشاد)، فكان ظهور شبكة قنوات الجزيرة حدثا إعلاميا فارقا ومفصليا في تاريخ مجتمعاتنا العربية جعل ملايين المشاهدين يخصصون لقناة الجزيرة الإخبارية الرقم (1) في أجهزة الاستقبال الفضائي خاصتهم، فما الذي جعل هؤلاء الملايين يتابعونها صبح مساء، هل هو نفاقها للأنظمة أم أنه موضوعيتها ومناقشتها لملفات شائكة كانت ولعقود مضت من المحرمات بل وجريمة قد تودي بصاحبها مهاوي الردى؟. 

صحيح أن لكل مؤسسة إعلامية أجندتها الخاصة بها لكن قناة الجزيرة كانت الأكثر موضوعية وقربا من المواطن العربي، وظهور الجزيرة هو ما فتح الطريق أمام العديد من الجهات لإنشاء محطات إخبارية منافسة تستطيع مجاراة المحطة التي خطفت الأضواء.

وكما أن قناة الجزيرة كانت علامة فارقة في تاريخ الإعلام العربي فسنجد أيضا أن برنامج الاتجاه المعاكس كان العلامة الفارقة بين برامج الجزيرة الإخبارية حيث تصدى أسبوعيا للعديد من القضايا المثيرة للجدل أو تلك المسكوت عنها، فكان بحق البرنامج التلفزيوني العربي الأول متابعة وإثارة للجدل حيث تقدر بعض الإحصائيات أن عدد متابعيه يفوق السبعين مليون مشاهد وهو رقم يفسره عدد متابعي صفحة مقدمه على الفيسبوك الإعلامي السوري الدكتور فيصل القاسم والذين فاقوا السبعة ملايين متابع طبعا عدا المتابعين والمتصفحين سرا، فما هو الجديد في البرنامج ولم هذه الضجة الكبيرة والحملة الشعواء على البرنامج؟

لقد كانت حلقة يوم الثلاثاء 5/5/2015 حلقة مثيرة ناقشت أحد أكثر الملفات الشائكة والمثيرة للجدل كما هي عادة البرنامج، لكن أهمية الحلقة كانت تكمن في أنها نكأت جرحا غائراً وجريمة مسكوتُ عنها، عندما تصدت لمناقشة إجرام طائفي منظم مدعوم ومسكوت عنه من الجميع، لأنه إجرام يخدم أجندات العديد من الجهات والأطراف الدولية والإقليمية التي صمتت بل ودعمت نظاما طائفيا مستبدا مجرما أعمل في سورية قتلا وتدميرا وتهجيرا وانتهاك للحرمات والمحرمات على مدى نصف قرن من الزمان توجهُ بخمس سنين أخرى من التغول في الإجرام الذي لم يترك في وطننا حجرا على حجر ولا بيتا إلا وأدخل إليه الحزن والألم بطريقة أو بأخرى.

لهذا كان من الطبيعي أن تشن الحملات المسعورة على هكذا حلقة فنحن هنا نتحدث عن حلقة فضحت إجرام نظام الطائفة الحاكمة والمتنفذة سياسيا وإعلاميا وماليا وعسكريا وأمنيا، والمدعومة من فارس وأشياعها إضافة إلى شرائح واسعة من الذين ارتبطت مصالحهم بهذا النظام وجيش من المتسلقين الذين وجدوا في الثورة السورية فرصة لتبوأ مركز أو منصب أو جني ثروة، وآخرون مردوا على النفاق لا يتقنون سواه عملاً، فتراهم يلهثون خلف فتات الولائم المتناثر هنا وهناك وكله باسم الوطن واللحمة الوطنية، أو البلدية، لا يهم سموه ما شئتم فاللحم واحد وإن تعددت أنواعه.

مما لا شك فيه أن النفاق والتملق يعتبران من الأمراض النفسية الخطيرة التي ابتليت بها مجتمعاتنا في ظل غياب دولة القانون والمحاسبة، وفي ظل الانحدار الأخلاقي الذي صنعته وكرسته الأنظمة المستبدة، وخطورة هذان المرضان تكمن في كونهما أصبحا من المؤهلات الضرورية للارتقاء في المناصب أو الحصول على الوظائف والترقيات، أما في الحالة السورية فإن ما يجعل الأمر كارثيا هو أن هذا النفاق والتملق الذي يمارسه بعض السوريين كان على حساب دماء شعب وخراب وطن.

قد لا نحتاج إلا كثير عناء لنفهم حجة الغرب وداعمي عصابة الحكم في التسويف والمماطلة التي أتاحت ذبح شعب وتدمير وطنٍ بأكمله، فحجتهم كانت ولاتزال هي حماية الأقليات ومكافحة خطر الإرهاب، الذي تدعي عصابة الحكم أنها تقوم بهما، ومن هنا فإن تلك الثلة من المنافقين والمتسلقين قد فهمت الرسالة جيدا، فلعبت على هذا الوتر الحساس وقدمت نفسها كتيار وطني حريص على مكافحة الإرهاب (الإسلام والخصوم) وعدم التفريط باللحمة الوطنية، ولو دققتم قليلا لوجدتم أن الكثير من هؤلاء هم انفسهم الذين كانوا يمدحون ويمجدون قائد الوطن، المجرم وأبيه وفصيلته التي تؤويه، حتى بات هؤلاء هم الوطن والوطن هم، بل حتى أن بعض المنافقين من شياطين الإنس قد سبقوا البقية بمقولة لوكان هناك رب يعبد غير الله لكان هذا الرب هو حافظ الأسد.

من المفارقات المفيدة جدا هو أن تلك الفئة التي هاجمت الدكتور فيصل وبرنامجه الحواري هي نفس الفئة التي بررت لصبيان الإتلاف تصرفهم الشائن بتنحية راية الثورة جانباً، وهذه الفئة هي نفسها التي هاجمت قناة الأورينت لأنها فضحت وكشفت حقيقة صنيع أقبية المخابرات الطائفي لؤي الحسين ونائبته منى غانم ابنة أحد أكثر ضباط سرايا الدفاع إجراما ولصوصية، حيث اتهموا الأورينت وصاحبها بالطائفية والعنصرية، فكان هجموهم هنا مباشراً، بينما كان الهجوم على فيصل القاسم مبطناً ومنمقا إلى حد ما، ربما لخشيتهم من قلمه ولسانه والملايين من متابعيه.

مما لا شك فيه أن بيننا طابور خامس، أعمل معوله هدما وتخريبا في ثورتنا ولا يجد حرجا في التسلق أو المتاجرة بالدماء التي سالت، فنراهم لا يفوتون فرصة للظهور إعلاميا وتقديم أنفسهم لأعدائنا كمعتدلين وحضاريين دون الاكتراث لما يسببه هذا النهج من دمار وتخريب للثورة التي دفعنا ثمنها غاليا. فهل كنا لنصل إلى ما وصلنا إليه لولا هؤلاء المنافقين وهل كان بشار وأبيه ليصبحوا فراعنة لو وجوا من يقول لهم لا.

إن هذه الفئة المتسلقة التي تضم سياسيي مراوغة وكتاب نفاق وملتحفو دين وإعلاميو كذب وتدليس قد باتت تيارا منظما يسرح ويمرح تحت شعار الحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان ومحاربة التطرف والعنصرية التي أصبحت عمل من لا عمل له وحجة المستبدين الجدد في القضاء على خصومهم أو إقصائهم، سلاحهم في ذلك الأجنبي وماله، لذلك فإن السكوت على هذا التيار هو خيانة للثورة وللدماء التي سالت وسيحاسبنا مئات الألوف ممن ضحوا بأرواحهم على ما فرطنا فيه أمام الله، فثورة ثمنها مأساة لم يعرف التاريخ لها مثيلا لا يجب أن يستولي عليها مثل هؤلاء، لأنهم لصوص سيبيعون الوطن من جديد كما باعوه أول مرة.
0
التعليقات (0)