قضايا وآراء

نحو تحقيق تكافؤ جيواستراتيجي بين دول الشرق الأوسط 3

وائل شديد
1300x600
1300x600
الوصول إلى نقطة التكافؤ الجيوستراتيجي

في واقع الأمر إن الامبراطوريات تنهض وتسقط وهذه حقيقة تاريخية، ذلك ما حدث مع كل الامبراطوريات والقوى السابقة مثل بريطانيا العظمى والامبراطورية العثمانية والامبراطورية الرومانية، وأسرة منغ الصينية وغيرها. ومن المعلوم بالضرورة أن الولايات المتحدة (كما في حالة الامبراطوريات والقوى العظمى السابقة) لديها استراتيجيتها الخاصة بها، والتي تعكسها في سياستها الخارجية، إلا  أنه في المقابل فإن  الولايات المتحدة الأمريكية واجهت خلال العقود المنصرمة وستواجه في السنوات القادمة تغييرا جيوسياسيا بمقدار مشابه لما واجهته البندقية والامبراطورية العثمانية والأسرة الصينية الحاكمة منغ. وبناء عليه، فإن دولا مثل تركيا، وإيران، ومصر، والمملكة السعودية مع دول مؤثرة أخرى مثل قطر يمكن لها أن تقود هذه التغيرات الجيوستراتيجية إذا ارادت ذلك، وتتحمل تركيا وإيران والمملكة السعودية القسم الأكبر من عبء تحويل هذه التغيرات إلى شيء واقعي. ذلك أن دول "الطليعة" هذه لديها الامكانيات الاقتصادية والموارد البشرية وتمثل جزءا كبيرا من الأركان الأربعة الرئيسية للمجموعات الإسلامية وهي: العرب، والترك، والفرس. ولفعل ذلك فإن إيران كقوة ناشئة عليها أن تعزز علاقاتها مع الدول في المنطقة وذلك لتقليل التدخل من قبل القوى الخارجية في شؤونها وشؤون دول الشرق الأوسط. وبناء عليه فإن إيران عليها أن تطور علاقتها مع دول مجلس التعاون الخليجي، ومصر، وتركيا، ودول اسلامية وعربية أخرى بصورة ايجابية. لقد فعلت إيران ذلك سابقا مع الاتحاد السوفييتي تماما كما تفعله مع روسيا الحالية. فإيران تُمَتن علاقتها مع روسيا إلى حد كبير وتتعاون مع موسكو لمعالجة الوضع الجيوستراتيجي مع جيرانها في الشمال الشرقي. وترتب على هذا التعاون مع موسكو عدم دعم المجاهدين الشيشان كما لم تدعم المتمردين الطاجكيين. وبدورها فقد منعت موسكو أذربيجان من التدخل في المحافظات الشمالية لإيران وقللت من عزلة النظام الإيراني، ووفقا لــ (اينات و ايستيلاس 2005) فقد لعبت موسكو دورا مهما في تدويل السياسة الخارجية لإيران. إذا فإيران ومن حيث المنطق مطالبة بأن تقوي علاقاتها مع جيرانها العرب و الترك. و من جهة أخرى فإن تركيا مطالبة أيضا بتقوية علاقاتها مع العرب و ايران.

إن الظروف المعقدة التي تعيشها منطقة الشرق الأوسط تولد حالة من عدم القدرة على التنبؤ وعدم القدرة على التيقن والجزم  بمستقبل المنطقة، و نتيجة لذلك فهناك فرصة لتركيا كي تلعب دورا محوريا من خلال إيجاد نمطا ايجابيا أو بلورة عملية إيجابية في العراق، إضافة إلى فرض حالة أو نمط أو عملية ايجابية في سوريا. أما العرب و هم الحلقة الأضعف في السلسلة الثلاثية فمطالبين بفعل الشيء ذاته.

لكن المشكلة عند العرب هي عدم اتفاقهم على جهة واحدة تعبر عنهم مثل غيرهم نتيجة لتفرقهم، وتضارب المصالح فيما بينهم، مما يجعلهم غير محصنين ومكشوفين ومن السهل ابتزازهم أو توظيفهم من قبل القوى الخارجية. إضافة إلى أن الأمة العربية في العديد من الدول العربية بدأت عملية تغيير قاسية تحت ما يسمى "الربيع العربي" ولقد دفعوا ومازالوا يدفعون ثمنا غاليا جدا لتحقيق التغيير. فمئات الآلاف قتلوا في هذه العملية القيصرية وملايين المهجرين واللاجئين ومئات الآلاف من الجرحى والمعوقين، وعشرات الآلاف من البيوت المهدمة. إن هذا الوضع المأساوي يرمي بثقل إضافي على السعودية، وتركيا لتقودا التغيرات الجيوستراتيجية في المنطقة إلى حين أن تتعافى الأمة العربية من نتائج عملية التغيير القاسية هذه، وتعود لتمارس دورها الريادي في استقرار المنطقة.

في الواقع إن تركيا وإيران والدول العربية معرضة بل تتعرض لتغيرات داخلية وضغوط خارجية على حد السواء تسبب لها خلخلة استراتيجية داخلية واقليمية، مما يستوجب وضع حد لهذا التدهور وتوقيفه، و تطوير عوامل جيوسياسية محلية وتوفير دعم شعبي في كل بلد من أجل البدء في عملية صعود للوصول إلى نقطة "التوازن الاستراتيجي المحلي" لكل دولة وذلك استعدادا للقيام بالوثبة التالية باتجاه معالجة استراتيجية المنطقة وصولا إلى مرحلة "التكافؤ الجيوستراتيجي" فيما بين دول المنطقة أي على المستوى "الإقليمي". 

إن ايقاف التدهور على منعطف الاستراتيجية مهمة ضرورية وملحة قبل الوصول إلى نقطة "اللاعودة" بمعنى انتشار الفوضى في الدولة الواحدة وتحولها لدولة فاشلة وانتهاء كينونتها. وبدون الوصول إلى نقطة "التكافؤ الجيوستراتيجي" بين الدول الرئيسية في المنطقة؛ فإن عملية التغير الجيوستراتيجي الاقليمية ستكون عرجاء ومنقوصة. والوصول إلى هذه النقطة يتطلب الوصول إلى نقطة التوازن الاستراتيجي المحلي من خلال تغييرات داخلية حقيقية في النظام السياسي والاقتصادي، واستغلال الموارد وتطوير التعليم ويتطلب نسيج اجتماعي داخلي متناغم، وديمقراطية وحرية وقيم وثقافة قومية مشتركة ووسائل إعلام محترفة وبنية تحتية متينة، وخدمات صحية مقبولة ورؤية طموحة جذابة.

الإدارة التكاملية للمصالح والمبادرات الجيوستراتيجية 

إن العمل للوصول إلى نقطة "التكافؤ الجيوستراتيجي" ينبغي أن تنفذ بشكل موازن لتأسيس مفهوم "الإدارة التكاملية للمصالح الجيوستراتيجية" فيما بين دول المنطقة، ويبنى هذا المفهوم على المبادئ التالية:
• إدراك وتقييم المصالح والمطامح الجيوستراتيجية لدول المنطقة.

• احترام المصالح والمطامح الجيوستراتيجة العادلة لكل دولة مع توضيح الحدود والتداخل بينها.
• حماية وتعزيز روح التعاون عبر استغلال عوامل عدة منها على سبيل المثال: الدين، والحضارة، والتراث، واللغة، والتاريخ، والعلاقات الجغرافية، والتكنولوجيا، والمصالح الاقتصادية، والتعايش من أجل تحقيق الازدهار والاستقرار الاستراتيجي والحفاظ على هوية كل الدول في المنطقة.

• تجنب المغامرات الكارثية خاصة التورط في الحروب الداخلية، فقد أثبت التاريخ أنه ما من رابح في الصراعات الطائفية وأنه ليس باستطاعة أيا كان أن يلغي أو يجتث أي طائفة أو هوية.

• تنمية سياسات مشتركة وتعاون اقليمي واعي مع الدول الغربية.

• أن تكون دول المنطقة على أهبة الاستعداد من أجل التكيف السريع أمام أية تطورات خلال هذه العملية وذلك لمواجهة حالة التعقيد والاضطراب المرافقة لها بطريقة مرنة بدلا من التصلب والتشدد. 

إن أهمية الإدارة التكاملية للمصالح تكمن في تجنب المواجهة الجيوستراتيجية فيما بين الدول في المنطقة، وتجنب الاقصاء الجيوستراتيجي واليأس، والتهميش، وتجنب استغلال الفرص الاستراتيجية من طرف واحد على حساب الآخرين مع الاحتفاظ بالحق في طموحات جيوستراتيجية عادلة. إن المصالح المشركة والمتشابكة تتطلب إدارة تكاملية للمصالح، وصراع المصالح يتطلب مقاربات استراتيجية راشدة وعقلانية لحل هذا الصراع. في نفس الوقت فإن "التضحية ببعض المصالح من قبل جميع الأطراف يعتبر نداء عاجلا وملحا لإنجاح هذا المسعى الجيوستراتيجي. إضافة إلى أن الوصول إلى نقطة "التكافؤ الجيوستراتيجي"، وتطبيق مفهوم الإدارة التكاملية للمصالح سيهيئ المنطقة لإطلاق مبادرات جيوستراتيجية من دول المنطقة ذاتها مما سيفتح لها المجال للمساهمة الفعلية في صياغة استراتيجية المنطقة وفقا لمصالحها، وسيساعدها في مقاومة الضغوط الخارجية ومقاومة أية اتجاهات جيوستراتيجية مفروضة، كما سيقلل من فرص التدخل الخارجي للقوى الخارجية. وبما أن المنطقة تشهد بصورة عامة فترة عصيبة ومعقدة وذات حراك ديناميكي عالي، فإن بعض المبادرات الاستراتيجية المصيرية أضحت مطلوبة بشدة ضمن سياق الديناميكية المعقدة للفترة الانتقالية للربيع العربي من أجل دعم، وتسهيل تكامل المصالح فيما بين الدول. وفيما يلي بعد النقاط المطلوب اخذها بعين الاعتبار عند وضع خطة العمل:

• التعرف على الميزات التنافسية لكل مجموعة للاستفادة منها في تطوير المقاربات الإستراتيجية.

• الحفاظ على الاستدامة الاستراتيجية وعدم التخلي أو تجاهل العناصر الاستراتيجية الحرجة بسبب الضغوط أو فترت الاضطراب. 

• تقليل كلفة الحفاظ على الاستدامة الاستراتيجية، من خلال مشاركة الخطر مع دول أخرى في المنطقة على قاعدة الربح المتبادل لكل الأطراف.

• تطوير أهداف ورؤى جيوستراتيجية في كل بلد وانشاء وترويج رؤية اقليمية تسعي لتحقيق الازدهار في المنطقة.

• التعاون في المسح والفحص المستمر لأوضاع المنطقة، وتبادل المعلومات بغية تطوير سيناريوهات واقعية.

• منتجات مشتركة كتطوير مصالح متبادلة فيما بين الدول مثل: التداولات، والصناعات التحويلية، والمشاريع التنموية المشتركة. 

• تبني اسلوب الحوار فيما بين الدول وحل المشاكل داخليا للحفاظ على مستوى جيوستراتيجي متوازن في المنطقة ولتخفيض مستوى التدخل الخارجي.

الخلاصة

تواجه منطقة الشرق الأوسط بيئة صعبة ومعقدة، حيث تتدخل القوى العظمى ليس في الشئون الجيوسياسية كل بلد، ولكن في الشئون الجيوستراتيجية لدول المنطقة ككل. وفي نفس الوقت واجهت الولايات المتحدة وقوى أخرى وما تزال تواجه تغيرات حقيقية في الواقع الجيوسياسي في عدة دول في المنطقة، مما ينعكس على تغيرات حقيقية في الواقع الجيوستراتيجي للمنطقة. وفي جميع الحالات فإن الولايات المتحدة بالرغم من أنها القوة العظمى إلا أن لها حدا من القدرات والامكانات لا تستطيع أن تتجاوزه؛ لذلك فإن هناك فرصة لدول المنطقة للعمل بجدية للوصول إلى نقطة التوازن الاستراتيجي الداخلية لكل دولة أولا، ثم تطوير ثقافة جيوستراتيجية مشتركة بين دول المنطقة ثانيا، ثم الوصول إلى نقطة "التكافؤ الجيوستراتيجي" ثالثا، بهدف تحقيق إدارة تكاملية للمصالح الاستراتيجية فيما بين دول المنطقة رابعا، مما سيفتح الأبواب لطرح مبادرات جيوستراتيجية على المستوى الدولي.

يخبرنا التاريخ أن المكونات العرقية للحضارة الإسلامية من العرب، والترك، والفرس، وجماعات أخرى كانت قادرة على تطوير حضارة مميزة خلال تاريخها. وإن هذا الفخر التاريخي وضروريات الواقع الحالي المضطرب يفرض على كل الدول في المنطقة أن تطور شكلا من اشكال السيطرة على واقعها وظروفها الجيوستراتيجية بدلا من التخلي عنها لقوى خارجية تتصرف في المنطقة كيفما تشاء على حساب دول المنطقة. وبالرغم من التناقضات الداخلية الحرجة بين دول المنطقة وخصوصا فيما يجري في سوريا واليمن، إلا أنه مازال هناك فرصة من أجل الاستفادة من هذه الصعوبات والنزاعات السياسية والعسكرية وكذا من الصعوبات الاقتصادية لتكون دافعا للوصول على الأقل إلى مذكرة تفاهم جيوستراتيجية أولية تأسس لتفاهم استراتيجي مشترك. 

لمطالعة الجزء الأول من المقال: إضغط هنا

لمطالعة الجزء الثاني من المقال: إضغط هنا


References 
1. Ataman, muhittin. "United States of America." Foreign Policy of States. Ed. Wolfgand Gieler, Kemal Inat, and Claudio Kullmann. Istanbul: Tasam, 2005. 523-42. Print. 
2. babkayi, Rebwar. New World order and the issue of Nationalities in the Middle East. Arbeel: Ministry of Culture and Youth, 2011. Print. 
3. Inat, Kemal, and Murat Yesitlas. "Islamic Republic of Iran." Foreign Policy of States. Ed. Wolfgand Gieler, Kemal Inat, and Claudio Kullmann. Istanbul: Tasam, 2005. 222-29. Print. 
4. Inat, Kemal. "Republic of Turkey." Foreign Policy of States. Ed. Wolfgand Gieler, Kemal Inat, and Claudio Kullmann. Istanbul: Tasam, 2005. 499-506. Print. 
5. Khalil Sh, Wael. "Analyzing Iraqi Complexity from Turkey Strategic perspective." State building and Security in Iraq. Ed. Muharram H. Ozev. Istanbul: Tasam, 2011. 385-91. Print. 
6. Sultan, Jasem. Geopolitic. Beirut: Dar Tamkeen, 2013. Print. 
7. Grygiel, Jakub J. (2006) Great Powers and Geopolitical Change. Baltimore, MD, USA: Johns Hopkins University Press. https://site.ebrary.com/lib/qfnl/Doc?id=10188449&ppg=186 
التعليقات (1)
abrar taqatqs
السبت، 17-10-2015 12:02 ص
Mmtaz

خبر عاجل