كتاب عربي 21

أحمد منصور وفيلم "اقتل حامل الرسالة": السحر الذي انقلب على الساحر

طارق أوشن
1300x600
1300x600
الخبر...

لم يجف بعد الحبر الذي وٌقع به اتفاق تجاري بثمانية مليارات يورو، بين الدولة المصرية وشركة سيمينس، خلال زيارة عبد الفتاح السيسي لبرلين قبل أسبوعين، حتى تحولت المدينة ذاتها إلى ساحة مستباحة لتصفية حسابات الانقلاب مع معارضيه.

كان أحمد منصور الشخص الأمثل لتجريب الوصفة عليه، باعتباره شخصية إعلامية تشتغل بمؤسسة كبرى بما قد يشكله اعتقاله وتسليمه من ضربة معنوية رادعة لمناوئي النظام المصري.

وفي الوقت الذي كانت تحلم فيه السلطات المصرية بلحظة تسليم المطلوب، لينال حظه من أحكام الإعدام أو المؤبد، خرج الرجل من سجن مؤبيد، ويا لسخرية اللغة، حرا طليقا ينظم الندوات وينظر لحرية الصحافة وحقوق الإنسان، في بلد كادت أن تزيغها ثمانية مليارات عن النهج الديمقراطي، الذي ارتضته لنفسها عقودا، منذ انعتاقها من حكم عسكري نازي بغيض.

انقلب السحر على الساحر، وتحول اعتقال منصور إلى محاكمة علنية للعلاقة الناشئة بين حكومة ميركل والنظام الانقلابي بمصر. فبلد المؤسسات والقانون لا يمكنه أن يتحول واحدة من جمهورية من جمهوريات الموز إرضاء لمطامع في "رز" متدفق هو "عز الطلب" في زمن الأزمة الاقتصادية وانحسار معدلات النمو.

صارت الفضيحة بـ"جلاجل" في وقت كان يمكن لرحلة الرجل إلى ألمانيا أن تمر وكأنها لم تكن.

في الثاني عشر من شهر أبريل الماضي، أنهى الصحفي المغربي علي لمرابط حكما قضائيا غير مسبوق، قضى بمنعه من الكتابة  مدة عشر سنوات، في واحد من أغرب الأحكام التي نتجت عن علاقة الشد والجذب بين السلطة والصحافة بالبلد.

جاء الحكم على خلفية دعوى  رفعها مواطن صحراوي مغربي ضده بتهمة "الافتراء على المواطنين المغاربة المختطفين من قبل جبهة البوليساريو الانفصالية".

وجاءت المحاكمة بعد عفو ملكي، صدر على علي لمرابط في قضية سابقة حوكم خلالها بثلاثة سنوات سجنا بتهمة إهانة المقدسات والتشكيك في الوحدة الترابية، من خلال مقالات ورسوم كاريكاتورية نشرها على صفحات جريدته الساخرة. وقتها خاض الصحفي المعتقل إضرابا عن الطعام وحصل في النهاية على العفو الملكي.

لم يتوقف علي لمرابط طوال السنوات العشر الأخيرة عن الكتابة في جرائد أجنبية معروفة، نشر على صفحاتها آراءه بما أظهر محدودية سلطة الدولة على منع كتاباته من الوصول إلى القراء. لكن للدولة قدرة بيّنة على منعه من تجديد بطاقته الوطنية ومن خلالها جواز سفره، الذي انتهت صلاحيته يوم (24 يونيو)، دون أن نعلم مصيرا للرسالة التي كان بعث بها إلى رئيس الوزراء عبد الاله بنكيران، قبل أسبوعين أو ثلاثة، شاكيا فيها من المضايقات التي يدعي أنها تطاله.

علاقة السلطة، أينما كانت، ظلت دوما مشوبة بكثير من التوجس مع وسائل الإعلام. وإذا كان الاحتكام إلى القانون وسيلة لـ"فض النزاعات" بين الطرفين في دول المؤسسات، فقد أثبتت حالة أحمد منصور، وما صدر عنه عقب الإفراج من أن إطلاقه كان "قرارا سياسيا" للحكومة الألمانية، أن السياسة ليس دائما بعيدة عن الاستعمال الضيق حتى في أعتى الديمقراطيات.

وخلال الحملة الانتخابية الأخيرة ببريطانيا، رأينا كيف صدر عن ديفيد كامرون ما يفيد أنه سيغلق البي بي سي في حال إعادة انتخابه ما أثار موجة انتقادات. هناك أمور للمزح وأخرى لا تحتمل الهزل. في فرنسا، يعيش الساسة على أعصابهم صبيحة إصدار كل عدد من صحيفة "لوكانار أونشيني" الساخرة لكنهم تعايشوا مع الوضع وطبعوا. 

الفيلم ...

في فيلم "اقتل حامل الرسالة"، للمخرج مايكل كويستا، اشتغال على قصة واقعية كان بطلها الصحفي الأمريكي غاري ويب، الذي كشف في سلسلة مقالات عن تورط الحكومة، في عهد الرئيس رونالد ريغان، عبر وكالة الاستخبارات الأمريكية، في تجارة المخدرات في السوق الأمريكية بغضها الطرف عن إغراقها بالممنوعات  واستخدام الأرباح في شراء الأسلحة لفائدة متمردي "الكونترا"، المدعومين أمريكيا في مواجهة حكم الساندينيستا بنيكاراغوا. أثارت تحقيقات غاري ضجة كبيرة بأمريكا وضمنها بعد ذلك في كتاب بعنوان "الحلف الخفي" او "تحالف الظلام".

في مواجهة أحد أقطاب الحكم بأمريكا العضو بمجلس الأمن القومي، سمع الصحفي غاري من الكلام ما قد يجعل كل عاقل يتنحى عن التعمق أكثر في القضية التي أسقطت بين يديه غداة اتصال هاتفي من أخت أحد المحكومين بالإتجار بالمخدرات، لكن جوابه كان:

غاري: لكنها قصة حقيقية.

الرجل النافذ: هناك قصص لأنها حقيقية جدا يُمنع الحديث عنها.

وفي مواجهة مبعوثين من واشنطن سعوا لثني الصحفي عن نشر تقريره يتحول النقاش، دون تسلسل

منطقي، من ودّيته إلى :

الرجل 1: لن نهدد أبدا أطفالك يا غاري

غاري: ماذا؟ أطفالي؟

كان التهديد واضحا.

لم تكن مهمة الصحفي سهلة في مواجهة تسلط المخابرات والدولة. لكن الأقسى كان "غيرة" زملاء المهنة من تحقيقه سبقا صحفيا لجريدة مغمورة، فشككوا في مصداقية تقاريره وصاروا ذراعا إعلاميا للدولة من حيث لا يدرون. 

في قضية أحمد منصور، انتشى كثيرون من "زملاء" المهنة وهللوا لتوقيفه، فألمانيا بلد قانون. بعد إطلاق السراح صار الألمان بلدا بلا قانون. أما حين منع علي لمرابط من الكتابة بالمغرب فقد تخلى عنه "زملاؤه"، واعتبروه متحاملا ومتحديا لمصداقية العمل الصحفي.

يتصل فريد ويل، الذي كان سباقا للاشتغال على القضية ذاتها، بغاري ويب ليلا، بعد أن أخذت القضية أبعادا كبيرة باتت تهدد مصالح رجال واشنطن المختبئين وراء ضرورات الأمن القومي.

فريد ويل: هل تعلم ما يمكنهم القيام به؟ سيتكالبون عليك. سيتهمونك بانفصام الشخصية، بالكذب وبالشذوذ. سيضربون كلبك. سيقولون عنك مغتصب أطفال.. لا يهم إن كان الأمر صحيحا. لكن الهدف يبقى صرف الانتباه على كل ما وصلت إليه من معلومات. لقد انتهيت، لم يعد لك وجود...

في دولنا يمكن للسلطة التنفيذية، متى شاءت ذلك، اقتحام مقرات المؤسسات الإعلامية والعبث بمحتوياتها وإغلاقها واعتقال صحفييها، والتهم جاهزة دوما ولو استعانوا في ذلك بفصول القانون الجنائي. وإن لم يكن للقتل المعنوي من نتيجة فرصاص القناصة و"الشرفاء" لهم بالمرصاد في الساحات والميادين وعلى جنبات التظاهرات والاعتصامات. لأجل ذلك، لا تزال دولنا متذيلة لتقارير المنظمات الدولية التي تعنى بمؤشر حرية الصحافة بالعالم.

 بالأمس القريب، كانت الدول الغربية ملجأ "المضطهدين" باعتبارها "واحة لممارسة حرية التعبير والنشر ومنارة للإبداع والخلق". في ألمانيا، ظهرت  بوادر "حلف خفي" أو "تحالف ظلام" قد تشكلا أو هكذا يراد لهما أن يكونا.

بالمقابل، لابد من الاعتراف أن عددا من الصحفيين كثيرا ما يخلطون بين العمل المهني والنشاط السياسي. من حق الصحفي أن يدافع عن فكرة أو نموذج أو توجه ايديولوجي، لكن لا حق له في تحويل قلمه أو أيا من الوسائط الإعلامية الممنوحة له إلى وسيلة في خدمة تيار أو حزب أو تنظيم.
في حفل تكريمه صحفيا للسنة، اعتلي غاري ويب المنصة وبدأ بالحديث: أول مقال لي كان عن كلب صارع الموت ونجا.

كنت في الثانية والعشرين من عمري واعتقدت يومها أني صرت عضوا في أخوية الصحفيين السرية. مقالي الأخير يتحدث عن حصان تابع لشرطة كاليفورنا قضى بسبب الإمساك...

 كان يعرف أن التكريمات لا تعني شيئا حين نتخلى عن القضايا ولا نتمكن من الدفاع عنها حتى الرمق الأخير خوفا أو طمعا أو قلة حيلة. صحفي فجر واحدة من أكبر الفضائح السياسية في أمريكا الثمانينات يتحدث عن كلب نجا من الموت وحصان قضى بسبب الإمساك ليلخص مساره المهني، صورة ملهمة تحتاج إلى كثير تأمل وتدبر خصوصا إن أكملنا بقية الخطاب والمشهد حيث يرمي باستقالته من جريدة، وربما من مهنة، زاغت ولا تزال عن قول الحقيقة ونقلها إلى الجمهور.

في العام 1998، نشرت وكالة الاستخبارات الأمريكية تقريرا يؤكد ما جاء في مقالات غاري ويب لكن ذلك صادف اهتمام العالم بفضيحة مونيكا لوينسكي والرئيس الأمريكي الأسبق بيل كلينتون ما حال دون حصوله على الاهتمام والتغطية المناسبين. وفي العام 2004، وفي ذكرى استقالته وهو الذي لم يستطع بعدها الاشتغال صحفيا، وٌجد غاري ميتا في شقته ومصابا بطلق ناري في الرأس. يومها طُرح السؤال إن كان الأمر انتحارا، كما أكدت التقارير الرسمية، أم قتلا وتصفية عن سبق إصرار.

يموت حامل الرسالة، لكن الرسالة تبقى مستمرة مهما حاولت خفافيش الظلام منعها عن الجمهور.

 خبر بلا معنى: حصل أحمد موسى على البراءة من القضاء بتهمة سب وقذف الغزالي حرب وشبكة التلفزيون العربي.

 من الأكيد أن الرسالة ستستمر.... و"على مسؤوليتي". 
التعليقات (1)
محمد
الخميس، 25-06-2015 02:33 م
جميل جدا ومقالة في الصميم فيلم اقتل حامل الرسالة كان يحمل في طياته عديد الرسائل التي تنتظر من يقراها على مهل ليستخرج منها العبر والدورس في قضية الزميل احمد منصور توفرت كل اركان السيناريو المحبوك جدا من اجل تاليف فيلم ربما يوازي روعة فيلم اقنل حامل الرسالة بمخرجه الفذ الا ان حكومة ميركل فوتت على هوليود فرصة صنع بطل اسطوري لكن المشكلة ليست هنا فمواكب الافرح بالقاهرة واغاني التشف الشعبية التي كان ابطالها المطبلاتية تحولت الى اتراح وهنا بيت القصيد وتغني عن كل اجابة عن نوعية من يقومون بنشر الوعي داخل قاهرة المعز في الاخير لايصح الا الصحيح وظهر الرجل كبطل اعلامي على مستوى العالم فيكفي احمد شهادة صحفي الماني يصف احمد منصور بانه يوازي في شعبيتة شعبية اشهر مذيع في المانيا ومدى تقبل الشعب الالماني لفرضية اعتقاله في احدى جمهوريات الموز