تونس في أسطول الحرية

حملة أسطول الحرية الثالثة لكسر الحصار رمزيا وسلميا عن مليوني فلسطيني تحت الحصار المشدد، ومنذ سنتين خاصة بدعم إقليمي مصري، هي مجرد موجة أخرى لتعاطف عربي ودولي تعكس تعمق اهتراء صورة الإسرائيلي في الرأي العام الدولي. وحضور الرئيس السابق الدكتور المنصف المرزوقي في الحملة أعطاها زخما خاصا؛ إذ نحن بصدد أول رئيس عربي سابق يشارك مباشرة بصفته مواطنا وحقوقيا في حملة تضامن عملية مع الشعب الفلسطيني. لكنه يمثل سبقا تونسيا آخر في علاقة خاصة تجمع تونس بفلسطين. 

الحضور التونسي في القضية الفلسطينية ترافق مع نشأتها وكان حضورا عفويا شعبيا أساسا يعكس شغفا خاصا بفلسطين وما تحمله من رمزية. تجسم ذلك في اهتمامهم الإعلامي بكل ما يحدث من تطورات في الساحة الفلسطينية، مثلما يشرح المؤرخ عميرة الصغير الذي ينقل كم المقالات التي كتبها كتاب تونسيون حول "وعد بلفور"، مثل زين العابدين بن محمد السنّوسي (1901-1965) بجريدة الأمّة (31 جويلية 1921)، إذ كتب حينها: " قضت إدارة الإنجليز أن يمنح اليهود أراضي فلسطين كوطن قومي حسب دعوة الصّهيونيين، ليؤلّف منهم عبيدا يستخدمهم في قضاء مأربه بالشرق تحت اسم "أصدقاء مقرّبون" لجميل من أولاهم الملك بعد أن فقدوه منذ عشرات القرون. وقد قرّر ذلك في اتفاق يلقّبونه باتّفاق" بلفور"، اهتزّت له بلاد العرب من أقصاها إلى أدناها واحتجّ عليه الفلسطينيون بجميع قواهم مسلمين ومسيحيين، إلاّ أنّ ذلك لم يؤثّر شيئا في سياسة الإنجليز، بل قابلوه بإعلان الأحكام العرفيّة في يافا أعظم مرافئ فلسطين لنزول المهاجرين الصّهيونيين، واستعملوا منتهى الشدّة مع المتظاهرين هناكّ". وكتب غيره في الاتجاه ذاته في صحف أخرى.

الدعم العملي ارتبط، حسب المؤرخ الصغير، بأحداث البراق سنة 1929 بعد وصول " استغاثة" مفتي فلسطين حملة تبرّعات لنجدة المقاومين، أشرف عليها مناضلون دستوريّون أثمرت (أموالا) أرسلت إلى رئيس اللّجنة الفلسطينيّة العربيّة بالقاهرة، وصاحب جريدة" الشّورى" محمّد علي الطّاهر في فيفري 1930 ومبلغا آخر بقيمة 100 جنيه استرليني حوّل لحساب الشخصيّة نفسها بـ" البنك العثماني"، وعند وصول تلك التبرّعات تلقى الحزب الحرّ الدستوري التّونسي رسالتي شكر من فلسطين؛ الأولى من اللّجنة التنفيذيّة الفلسطينيّة والثانية من المحكمة العليا الإسلامية بالقدس". 

وتصاعدت أهمية هذا الحضور إلى درجة أصبح فيها زعيم الحركة الوطنية التونسية ذاته الشيخ عبد العزيز الثعالبي، أحد أعمدة حركة عربية وإسلامية تقف ضد "وعد بلفور". وحضر الثعالبي مؤتمر القدس سنة 1931 نائبا عن مسلمي شمال إفريقيا، مثلما حضره شيخ الأزهر لاحقا التونسي محمّد الخضر حسين وغيرهما من المُبعدين والنقابيين وطلاّب العلم بالشرق أو بفرنسا. وخلال الثلاثينيات أيضا نشط التونسيون ضد حضور دعاة للحركة الصهيونية في تونس، وأبرزهم جابوتنسكي وقاموا بمظاهرات لمنع قيام هذه المحاضرات ونجحوا في ذلك. 

وعندما كانت تونس سنة 1948 تحت الاحتلال العسكري الفرنسي المباشر، كان الانشغال بالتطورات في فلسطين عاملا أساسيا لحركة الساحة السياسية التونسية. وكان لقرار الأمم المتحدة أثر مباشر لتكون لجان وجمعيات، مثلما ينقل الصغير، في إطار جامع الزيتونة من مدّرسين وطلبة ومن مختلف الجمعيات الثقافية، وخاصة " جمعية الشّبان المسلمين" ورئيسها محمّد الصالح النّيفر والجمعيّات الأخرى التي بعثت للغرض نفسه، وهي" لجنة إغاثة فلسطين الشهيدة" ( رئيسها أحمد بن ميلاد) و"لجنة الدفاع عن فلسطين" (تكونت في 18 أوت 1947 ويرأسها محمّد الصّادق بسيّس) و" اللجنة العربيّة لهيئة المدّرسيـن" (2 ديسمبر1947) برئاسة الشيخ الشاذلي بالقاضي. 

لكن أم تحرك عملي تم في إطار حرب سنة 1948 عندما تطوع تونسيون للقتال في فلسطين، وحفظت جمعية كونوها سنة 1956 باسم "ودادية محاربي فلسطين" أرشيفهم الخاص. وينقل تقرير أمني فرنسي للمقيم العام حسب الصغير: "أنه حتى 20 جويلية 1948 أحصت المصالح الأمنية عدد 2676 تونسيّا متطوّعًا إمّا وقع حجزهم في الحدود مع طرابلس، أو وقع إيقافهم قبل اجتيازها". وليس واضحا في المقابل رقم التونسيين الذين نجحوا في عبور الحدود والوصول إلى أرض المعركة. التقرير الأمني الفرنسي ذاته، يذكر أن العدد الأكبر من المتطوعين كان من المراقبة المدنيّة لتونس العاصمة (657 متطوّعا)، تليها صفاقس مع ظهيرها بـ276 متطوّعا، ثم سوسة والسّاحل بـ256 متطوّعا، وأخيرا قابس وبقية الجنوب بـ 222 متطوّعا. وجل المتطوعين كانوا من الطبقات الفقيرة أساسا من حرفيين وعمال وفلاحين صغار وعاطلين عن العمل. 

هذا الاهتمام المبكر جدا تواصل في بقية الأزمات والحروب مساندة وتطوعا. وأكثر من هذا تطوع تونسيون في جبهات القتال في إطار فصائل فلسطينية مثل الجبهة الشعبية والجبهة الشعبية-القايدة العام والجبهة الديمقراطية وغيرهم. ومن ذلك موجة الشهداء في آخر الثمانينيات إلى منتصف التسعينيات من عمران المقدمي إلى رياض بن جماعة. 

كل هذا الزخم العفوي والشعبي  كان متمايزا عن توجه رسمي تونسي، يتصاعد من حين إلى آخر في اتجاه التموقع في سياق الدول المتقربة من إسرائيل، مثلما يكشف الأرشيف الإسرائيلي في علاقته بفترتي حكم بورقيبة وبن علي مثلما هو واضح في كتاب ديفيد لاسكيار. 

الحضور الحالي المميز في أسطول الحرية ليس جديدا، وهو حلقة في سلسلة طويلة لتميز تونسي شعبي وعفوي في دعم القضية الفلسطينية. مشاركة الدكتور المرزوقي بوصفة رئيسا سابقا ليست في تمايز عن موقفه عندما كان رئيسا يباشر مهامه، مثل محاولاته كسر الحصار خلال عدوان صيف 2014 بإرساله طائرات عسكرية محملة بالمساعدات وهو ما أحرج السلطات المصرية حينها، أو استقباله الرسمي والمهيب للقيادات الفلسطينية لحكومة غزة، مثل رئيس الوزراء حينها إسماعيل هنية.
 والأهم موقفه السياسي المعلن حينها الذي وصف فيه، لأول مرة بالنسبة لمسؤول رسمي تونسي، إسرائيل بأنها "دولة إرهابية". ومشاركته الحالية في إطار حملة ناشطي سلام دوليين لكسر الحصار الذي يحرم مليوني فلسطيني من حقوقهم الأساسية يأتي في الالتزام ذاته، لكن من موقع الناشط الحقوقي والمواطن. وفي ذلك لا يمثل نفسه فحسب، بل يمثل جل التونسيين وتقليدا تونسيا؛ إذ حتى من يمكن أن يختلف مع الدكتور المرزوقي سياسيا في الشأن الداخلي، لا يمكن ألا يجتمع معه في التعاطف مع فلسطين ومعاناتها الطويلة، برغم التعتيم الإعلامي هنا وهناك.