تميم البرغوثي
1300x600
1300x600
لن أطيل التعليق على الأحداث التي وقعت في سيناء الأسبوع الماضي، لأنه لا داعي لتكرار ما كتبته من قبل في مقال "الطوفان" المنشور على هذا الموقع قبلها بعدة أسابيع. فها هي مصر على أبواب الحرب الأهلية، إن لم تكن قد دخلتها للتو. وفي البلاد أقاليم أو أجزاء من أقاليم لا تسيطر عليها الحكومة المركزية. وقد خسرت هذه الحكومة احتكارها للعنف المشروع، حيث أصبح في البلاد كيانات مسلحة لها أرض ولها أتباع يرون أن ممارستها للعنف هي الممارسة المشروعة دون سواها. وإن كان هذا غير محسوس في المدن الكبرى كالقاهرة والإسكندرية، فإنه لم يكن محسوسا كذلك في دمشق وحلب أول الأمر. وإن على  الأصوات العجيبة التي تدعو الحكومة لعلاج الأزمة بالضرب بيد من حديد أن ينظروا إلى ما آلت إليه حال من فعلوا ذلك وضربوا بأيد وأرجل وأرؤس من حديد وصفيح ونحاس وطائرات وبراميل ودبابات وأمريكان وتحالف دولي. وإن من يقتد بالسياسات السورية والعراقية والليبية، لن يحصل إلا على نتائج سورية وعراقية وليبية. أقول لن أطيل التعليق على الأحداث نفسها وعلى أسبابها، فهي واضحة، ولكن أحاول هنا التفكير مع سواي عن كيفية التعامل مع نتائجها، وإنقاذ البلاد والعباد من التذابح القادم.
لا بد أولا من استبعاد الحل العسكري والأمني الذي تعتمده الحكومة المصرية الحالية. إن ما يفعله الحكم المصري اليوم هو معاداة أهل سيناء وأهل غزة، والتعاون الأمني الوثيق مع إسرائيل.  

وهو تحديدا ما كان يفعله منذ عشر سنوات، وهو تحديدا ما أدى إلى الأزمة الحالية. إن الحكم الحالي يخزن الذحول والثارات في صدور أهل سيناء وأهل غزة كما يخزن البخيل ماله ويكنزه. فالقوى المؤثرة في النظام تخوض حربا ضد قطاع غزة بالاشتراك مع إسرائيل منذ ثمانية أعوام، والحصار البري في القانون الدولي عمل من أعمال الحرب، ولم تتوقف هذه الحرب لا في عهد مبارك ولا المجلس العسكري ولا مرسي ولا عدلي منصور ولا الآن. وهذا يغضب أهل سيناء، لا من باب قرابة الدم واللغة والدين ولا من باب الجوار فحسب، ولكن أيضا لأن غزة هي أكبر مدينة ذات كثافة سكانية في المنطقة والتجارة معها هي شريان حياة أهل سيناء الشمالية ومصدر أرزاقهم. ثم إن النظام يخوض حربا أخرى ضد أهل سيناء أنفسهم، أيضا منذ عهد حسني مبارك، ويتعامل معهم وكأنهم شعب واقع تحت الاحتلال، وحالات القتل والتعذيب والاختطاف وانتهاك حرمة البيوت معروفة لدى العاملين بمجال حقوق الإنسان والمتابعين لهذا الشأن. إن من يدعون إلى ضرب سيناء بيد من حديد ينسون أن اليد التي من حديد تضرب سيناء منذ ما يقارب العقد من الزمان. إن هذه هي وصفة الكارثة. إن الدولة حين تختار أن تصبح سوطا، فإنها لن يبقى منها إلا السوط، والسوط ليس دولة، وهو لم يعد يخيف أحدا.

إنه ومنذ نهاية الحرب العالمية الثانية، قلما انتصر جيش نظامي على جماعة فدائية تمارس حرب العصابات على أرضها في مواجهة كبرى: انهزم الفرنسيون في الجزائر وفيتنام وانهزم البريطانيون ثم الروس في أفغانستان، وانهزم الأمريكيون في فيتنام، ثم في أفغانستان ثم في العراق، وانهزم الإسرائيليون في لبنان وفي غزة، بل انهزمت الحكومة السودانية في جنوب السودان، والحكومتان العراقية والسورية في شمال غرب العراق وشمال شرق سوريا حتى كادت الدولتان أن تختفيا ويعاد رسم حدودهما. إن لغة "الحرب على الإرهاب" لو كانت تنفع، لكانت نفعت الأمريكيين، أصحاب أقوى جيش وأغنى اقتصاد في العالم وهم يحاربون بلدا كالعراق، أرهقوه بالحصار اثني عشر عاما وأجاعوا أكثر من مليون نفس من شعبه حتى الموت، فما بالك ببلد كمصر، يعاني أزمة اقتصادية طاحنة وجبهته الداخلية منقسمة سياسيا ولنصف أهله ثأر ودم عند حكامه؟

إن من كلاسيكيات علم الحرب والاستراتيجية المقررة في معظم كليات العلوم السياسية في جامعات العالم كتاب "عن الحرب" للجنرال البروسي كارل فون كلاوزفتز ( عاش من 1780 إلى 1831)، ومن نصوصه الأكثر اقتباسا: "لا يمكن اعتبار الحرب انتهت إلا بالوصول إلى تسوية تلقى بعض القبول من الطرف المغلوب". وكان كلاوزفيتز يقصد "بالطرف المغلوب" القادة والآمرين، وأن الحرب لا تنتهي إلا باقتناع هؤلاء القادة أن التسليم أفضل الخيارات المتاحة. ولكن في حروب العصابات والفدائيين، كما في الثورات الشعبية الكبرى التي قامت في بلادنا منذ سنوات، لا يوجد قادة يستسلم الناس باستسلامهم وينقادون بانقيادهم ويقتنعون باقتناعهم. إن على الذي يخوض حربا ضد متطوعين غير منتظمين في جيش مركزي، أن يقنع كل واحد منهم بالكف عن القتال أو يقضي عليه. وخيار الحكام العرب، وعلى رأسهم الحاكم الحالي لمصر، هو بالطبع القضاء على الخصم، كل خصم، بل كل مشتبه في أنه خصم.

إلا أن الفدائيين ومن يمارسون حرب العصابات يزيدون عشرة كلما أصيب منهم واحد، ما يجعل خيار "القضاء على الخصم" هذا أضمن الطرق وأقصرها لزيادة عدد "الخصوم" وانتصارهم في نهاية الأمر. إن عنف الدولة الممارس ضد الثورات الشعبية أو ضد الجماعات المسلحة ذات القناعة والتي تنتهج حرب العصابات، هو أشبه بأن يكون دعوة للتطوع ثم الانتقام لا وسيلة للردع.  

كذلك فالرهان على سلاح الطيران رهان كارثي. فبالإضافة إلى كونه يزيد من عدد الغاضبين في سيناء، فإنه يزيد من عددهم في أحياء القاهرة الفقيرة. وتو ما ظهر التمرد المسلح في المدن أصبح استخدام سلاح الطيران شبه مستحيل، لتقارب الناس واختلاط المؤيد بالمعارض، فإن قررت الحكومة قصف المدن  رغم ذلك، كما فعل السوريون، فإنها ستقصف من معها ومن عليها، فيصبح الجميع عليها. فالخطر على الحكومة لن يأتي من طابور دبابات يعبر قناة السويس من سيناء متجها نحو القاهرة، بل من اقتناع كثيرين في أحياء القاهرة الفقيرة بسردية خصوم النظام. وهؤلاء لا يراهم أحد ولا يعرفهم، لأن البشرية لم تخترع حتى الآن وسائل مراقبة تعرف ما يدور في ضمائر الناس. فالثوار والفدائيون ومنتهجو حرب العصابات، أحببتهم أم كرهتهم، سواء سكنوا الكهوف أو العشوائيات، تسلحوا أم لم يتسلحوا، كالجن والأشباح يرون الحكومة من حيث لا تراهم مهما فعلت.

وأنا أعلم أن الجملة الآتية قد تغضب بعض القراء من جميع الأطراف، ولكن حروب العصابات ليس لها إلا حل سياسي.  شئت أم أبيت، هي حروب لا يمكن إنهاؤها إلا بدرجة من الإقناع، أي بالوصول إلى حل يقلل من رغبة المتطوعين بالتطوع، ويرضيهم عن التسوية السياسية بشكل جماعي. باختصار على الحكومة أن تراعي الرأي العام لدى خصومها. 

لذلك، فإن أسوأ ما يمكن أن تفعله الحكومة هو التعاون مع إسرائيل ومعاداة أهل سيناء وغزة، بل الصواب هو فعل العكس تماما، التعاون مع أهل سيناء وغزة ومعاداة إسرائيل.

إن مراعاة الرأي العام، وتمتين الجبهة الداخلية للبلد، قد يكون أقرب الحلول لمن كان عاقلا وأراد أن يحافظ على بنية الدولة المصرية وشرعية وجودها. وعليه فلا بد من  استقالة جميع الأطراف المتسببة في الأزمة، وعلى  رأسهم كل طاقم الحكم الحالي، من القمة إلى القاع، بشقيه المدني والعسكري، ثم الإفراج عن كافة المعتقلين وإسقاط الأحكام السياسية التي طالت قادة المعارضة وأفرادها، ثم الدعوة لتشكيل حكومة وحدة وطنية من جميع القوى السياسية، لا يشارك فيها أي ممن تلطخت أيديهم بالدماء وبفض الاعتصامات وبقتل المتظاهرين، وتُعطَى هذه الحكومة صلاحيات رئيس الجمهورية. ثم أن تقوم هذه الحكومة بوقف العمل باتفاقية كامب ديفيد، وقطع العلاقات الدبلوماسية مع إسرائيل وفتح معبر رفح في الاتجاهين مما يخفف من الاحتقان الاجتماعي والاقتصادي والسياسي في المنطقة.

إن قرار إلغاء اتفاقية السلام يعطي شرعية وشعبية لمن يتخذه، وكذك قرار فتح معابر غزة والتحالف الاستراتيجي مع المقاومة الفلسطينية، والشرعية يحتاجها كل من أراد توحيد بلد منقسم. كذلك فلا بد من تنحي كل من يشكل وجوده عائقا أمام الوحدة الوطنية لأهل مصر، حتى وإن كان في أعلى هرم السلطة.

فإن حصل ذلك فإن في مواجهة عدو خارجي هو إسرائيل ما يجب العداوات الداخلية بين أطراف الصراع المصري، ويمنع تفاقم الاقتتال الأهلي القائم. و كل ما دون ذلك سيودي بالبلد. 

إن من صنع المشكلة لن يحلها، بل سيفاقمها، لذلك فعلى من صنعوا هذه المشكلة بالقمع والظلم والتعاون مع إسرائيل، أن يرحلوا قبل فوات الأوان.
التعليقات (3)
عبد العظيم حاج أحمد
الأربعاء، 08-07-2015 04:58 م
أفضل ما قرأت عن الوضع في مصر
محمد إدريس
الأربعاء، 08-07-2015 04:50 م
وما الجَمْعُ بَينَ الماءِ والنّارِ في يدي...بأصعَبَ من أنْ أجمَعَ الجَدّ والفَهمَا تناص وليس أمام مصر من فرصة ذهبية لاستعادة كامل وزنها وزعامتها الابتحقيق نصر تاريخى مرة واحدة والى الابد بتحريرها فلسطين كاملة ، تماما مثلما فعلت مع الصليبيات والمغوليات فى العصور الوسطي ولن تصبح مصر قط دولة حرة قوية عزيزة متقدمة يسكنها " شعب أبى كريم متطور " الا أن تصفي وجود العدو الاسرائيلى من كل فلسطين .فبهذا "وبه وحده " تنتقم لنفسها من كل سلبيات تاريخها وعار حاضرها . والى أن تحقق هذا فستظل دولة مغلوبة مكسورة راكعة فى حالة انعدام وزن سياسي تتذبذب بين الانحضار والانزلاق التاريخى ، دولة كما يصمها البعض شاخت وأصبحت من مخلفات التاريخ وتنزاح بالتدرج خارج التاريخ . وذلك -نحن نثق- لن يكون . جمال حمدان شخصية مصر دراسة فى عبقرية المكان دارالهلال الجزأالاول / مقدمة فى الشخصية الأقليمية ص/ 47
انتهت الراقصه سالومى من رقصتها
الأربعاء، 08-07-2015 02:02 م
سبق السىف العزل كان ذلك ممكنا لو كان لهم عقول ىفهمون بها