مقالات مختارة

في رثاء "سيادات" لم توجد أصلا!

توفيق رباحي
1300x600
1300x600
كتب توفيق رباحي: نماذج لوقائع حدثت في أقل من شهر جديرة بالتأمل:

ـ موظفون بريطانيون أشرفوا بالكامل على إجلاء رعايا بلادهم من مطار شرم الشيخ عقب كارثة الطائرة الروسية في شبه جزيرة سيناء.

ـ الحكومة الروسية أصرت على أن يتولى الجيش المصري، ولا أحد غيره، عملية إجلاء السياح الروس من شرم الشيخ باتجاه بلادهم.

ـ الولايات المتحدة تُلزم الطائرات القادمة إليها من مصر بـ"شحن" الركاب في طائرة وأمتعتهم في طائرة أخرى منفصلة.

ـ الحكومة البريطانية تبعث، حتى قبل كارثة الطائرة الروسية، كل شهرين وفداً متخصصا إلى مطار شرم الشيخ لمعاينة الإجراءات الأمنية فيه بتعاون كامل وثيق من الطرف المصري.

ـ مصر تتجه، مرغمة، إلى تسليم إجراءات الأمن في مطاراتها إلى شركات أجنبية غربية، بعد فاجعة الطائرة الروسية.

ـ روسيا أرغمت الحكومة اللبنانية على إغلاق جزء من مجالها الجوي مؤقتا بسبب مناورات عسكرية في المنطقة، فخضعت الحكومة اللبنانية وغيّرت مسارات الطائرات من وإلى مطار رفيق الحريري الدولي.

ـ فرنسا أرسلت إلى باماكو، عاصمة مالي، قوة خاصة في اللحظات التي أعقبت عملية خطف الأجانب في فندق راديسون بلو الأسبوع الماضي، وكأن العملية وقعت في مقاطعة داخل فرنسا. 

ثم يأتي مَن يتحدث بعناد عن السيادة الوطنية!

هذا نوع من التطور في العلاقات الدولية سيبرز أكثر في المستقبل القريب والبعيد، ويحمل عنوانا واحداً: وداعا للسيادة الوطنية بالمفهوم التقليدي الذي نشأنا عليه في بلداننا وما زال يساق لنا في الإعلام "الوطني" المنكمش على ذاته. 

السبب واضح وسهل، وهو أن مفهوم السيادة تغيّر مثلما تغيرت الكثير من المفاهيم. "هذا التطور" في مفهوم السيادة يترافق مع أوجه العولمة الأخرى: أن تشرب قهوة "عالمية" في مومباي أو فانكوفر أو عمان أو كيب تاون، المذاق يجب أن يكون واحدا (أو متقاربا) والسعر كذلك. والذي يتحكم في قهوتك أو "برغرك" سيقترب يوما من التحكم في سيادتك بالمفهوم الذي لقنتك إياه دولتك الفاشلة.

لكن هناك سبب آخر ترتب عنه الأول، وهو أن الدول التي لا تتوقف عن التشدق بشعارات السيادة والعزة والوطنية، تخلت عن سيادتها، أو عجزت عن الحفاظ عليها.

السيادة الوطنية اليوم هي أن توفر الأمن والخبز والدواء لشعبك وضيوفك. والدول التي لا تتوقف عن التشدق بهذا الشعار وفرت القليل أو لا شيء من متطلبات السيادة (خبز، دواء، كرامة، أمن)، فكان لا بد أن يكون هناك من يوفرها أو يعرض توفيرها.

قطع العالم الكثير من المسافات في هذا المجال. عندما تُشرِّع حكومة ما في بلدان التشدق الدائم بالسيادة، ضرائب جديدة أو قوانين تضيّق اقتصاديا وماليا، تحتج الشركات والهيئات الأجنبية في تلك البلاد قبل أن يشتكي المواطن (إن اشتكى أصلاً) الذي يُفترض أن التشريع الجديد يستهدفه. وقد حدث هذا في دول عدة إحداها الجزائر.

من عجائب هذا الزمن أن الدول التي لا سيادة لها هي التي لا تتعب من رفع شعارات السيادة. انظروا:

حكومة العراق الضائع إلى غير رجعة والتي تتوسل جنديا أمريكيا أو روسيًا، "ترفض بشدة" وجود قوات أجنبية على الأرض لأن في ذلك مسًّا بالسيادة الوطنية.

سوريا المستباحة لكل الميليشيات والجيوش الإقليمية والدولية، إلا من أبى، لا يتوقف رئيسها وإعلامها عن إثارة شعار السيادة بمناسبة ومن دون مناسبة. باكستان المنهارة أمام سلطة المجموعات الدينية العنيفة والمتعددة تتشدق بالسيادة الوطنية وتراها وراء كل حركة وسكون. حتى عندما اخترقت قوة أمريكية خاصة مجالها الأرضي والجوي وقتلت أسامة بن لادن وعادت إلى قواعدها سالمة، تحدث المسؤولون الباكستانيون بلا حياء عن السيادة الوطنية.

ليبيا المنكوبة يحتج قادة ميليشياتها ولوردات الحرب فيها على قارب إيطالي طارد مركب مهاجرين في مياهها الإقليمية، لأن ذلك التصرف "يمس بالسيادة الوطنية" لليبيا.

الجزائر التي سلمت أسرار رئيسها الطبية والصحية لفرنسا تكابر بلا ملل في موضوع السيادة والكرامة.

لو بسطنا خارطة العالم على طاولة سنكتشف دون عناء أن الدول التي تبكي دمًا على السيادة، هي التي ضيعت سيادتها بنفسها.. هي الدول الفاشلة بإخفاقاتها وطواغيتها وحروبها الأهلية. لم تختف السيادة يوما من دولة فيها انتخابات ديمقراطية تفرز حكومات توفر الخبز والكرامة والأمن لشعبها. ولم تختف السيادة يوما من بلدان بلا انقلابات عسكرية وطواغيت وبعيدة عن الحروب الأهلية.

لم أسمع أو أقرأ يوما أن الألمان يخشون ضياع سيادتهم. بل لا يتحدثون عنها أصلا. ولا البريطانيين. ولا السويديين. ولا الإيطاليين، على الرغم من أن الحكومات الأوروبية، منفردة، تخلت فعلا عن مساحات واسعة من صلاحياتها التنفيذية لصالح مقر الاتحاد في بروكسل، والبرلمانات فقدت الكثير من صلاحيات التشريع لصالح البرلمان الأوروبي في ستراسبرغ. كما فرض الاتحاد قوانينه على الدول وفي الحدود ونقاط العبور بفضل اتفاقية اسمها اتفاقية شنغن.

رغم كل ذلك لم يعتب أحد أو يحزن (باستثناء بعض عتاة اليمين). لأن هؤلاء يعيشون السيادة ويمارسونها، بينما الشعوب المهزومة تحلم بها وتتوهمها فقط.

(عن صحيفة القدس العربي اللندنية)
0
التعليقات (0)

خبر عاجل