كتاب عربي 21

عبد الإله بنكيران: لا تسمعوا كلام أحد غيري...!

طارق أوشن
1300x600
1300x600
"القناة الثانية مساندة للإضراب. وكما لاحظتم أحمل شارة حمراء إسوة بباقي شغيلة القناة". جاء هذا الكلام على لسان مذيع من القناة الثانية المغربية في إحدى نشراتها الإخبارية يوم الإضراب العام الذي دعت إليه عدد من المركزيات النقابية بالمغرب يوم الأربعاء 24 فبراير الماضي. جملة كانت كافية لتثير مرة أخرى حفيظة رئيس الحكومة المغربية السيد عبد الاله بنكيران الذي دخل في صراع لا يهدأ حتى يشتعل من جديد مع القناة التي تتبعه إداريا، على المستوى النظري، من خلاله وزيره في الاتصال. لكنها في الواقع أبعد ما تكون عن رؤيته لمفهوم التلفزيوني العمومي الذي يريده حكوميا.

لم يتأخر رد الحكومة على لسان وزير الاتصال، خلال لقاء صحافي عقب انعقاد الاجتماع الأسبوعي لمجلس الحكومة، حيث اعتبر أن "الحكومة توقفت عند التعامل غير المهني والمنحاز والمخالف للمبادئ الدستورية والمقتضيات القانونية المؤطرة للاتصال السمعي البصري وكذا قواعد أخلاقيات المهنة والذي اتسم به تعاطي كل من القناة الثانية، والقناة الأولى بدرجة أقل" مع الإضراب، وهو ما رد عليه مسؤولو القناة في بيان رسمي أكد أنه "تم التحلي بأعلى درجة من المهنية في معالجة الخبر المتعلق بالإضراب العام".

ولأن المعركة الحقيقية كانت ولا تزال بين حزب العدالة والتنمية والقناة العمومية الثانية التي يعتبرها مسخرة لخدمة "الدولة العميقة" ضده، فقد بادرت الأمانة العامة للحزب بإصدار بيان أكدت فيه أن "الأمين العام (وهو رئيس الحكومة) عبر عن استغرابه لانخراط بعض وسائل الإعلام الرسمية في الإضراب والتحريض على الانخراط فيه ومنها القناة الثانية التي يتأكد مع مرور الأيام أنها تتصرف كفاعل سياسي وليس كقناة عمومية تشتغل في نطاق المهنية الصحافية". والواضح أن الأزمة مرشحة للتصاعد مع تواتر أخبار عن عزم رئاسة الحكومة التقدم بشكوى ضد قناة دوزيم لدى الهيئة العليا للاتصال السمعي البصري، باعتبارها الهيئة الدستورية المنوط بها الفصل في الشكايات الموجهة ضد وسائل الإعلام السمعية البصرية بالمغرب وفقا لدفاتر تحملات محدد يجمع الدولة بها.

في فيلم (مجانينو) للمخرج عصام الشماع، إنتاج 1993، يتجول حلمي، مأمور المستشفى، بجانب الدكتور آدم داخل مستشفى الأمراض العقلية حيث يشتغلان ويصلان إلى مقر الإذاعة الداخلية للمستشفى المكون من جهاز وشخص مناوب ليس إلا.

حلمي: هي ده بقا الأوضه الأهم. أحلى شاي يا درويش (موجها كلامه للشخص المناوب)

درويش: تشكر يا حلمي، تشكر.

حلمي: متسمعنا حاجة للست أم كلثوم.

يبتعدان قليلا..

حلمي: تستولي عليها (يقصد الإذاعة) تبقى المستشفى في إيدك والدنيا تتغير.

الدكتور آدم: إزاي يا حلمي؟

حلمي: مين إيلي يقدر على المجنون؟

الدكتور آدم: مين يا حلمي؟

حلمي: إيلي أجن منو. ومين بقا يقدر على دكتور المجانين؟

الدكتور آدم: مين يا حلمي؟

حلمي: دكتور برضه، بس مجنون.

لم تكن هذه المرة الأولى التي يصب فيها السيد عبد الإله بنكيران جام غضبه على القناة الثانية بل تعود فصول الحكاية إلى سنوات ماضية شهد البرلمان أحد فصولها حين أثاره دخول مصورة القناة إليه بقميص اعتبره يومها غير لائق فتحولت معه الجلسة البرلمانية إلى ساحة للشد والجذب. لكن تاريخ المواجهة المفصلي كان ما تلا تفجيرات 16 ماي الإرهابية التي شهدتها الدار البيضاء وظهور مديرة الأخبار وقتها، السيدة سميرة سيطايل، على قنوات فرنسية حمّلت فيها حزب العدالة والتنمية المسؤولية الأخلاقية عن الأحداث في تناغم مع فصيل من الدولة كان يدعو لحل الحزب واستئصاله من الحياة السياسية. 

ومنذ ذلك التاريخ والحرب مستعرة بين عبد الإله بنكيران وسميرة سيطايل لدرجة أن أول ورش حقيقي سعت الحكومة برئاسته إلى التأثير فيه، كان قطاع الإعلام من خلال محاولته إقرار دفاتر تحملات على المقاس رفضت القناة الثانية تطبيقها علنا مما تطلب تدخلا ملكيا أفضى إلى تعديلها بعد سحبها من يدي وزير الاتصال ومنحها لوزير السكنى والتعمير وسياسة المدينة، ثم توالت فصول الأزمة على شكل تصريحات من رئيس الحكومة/ الأمين العام للحزب وعدد من وزرائه ليصل الأمر ببعضهم إلى مقاطعة التعامل معها، وهو ما واجهته سيطايل برفع التحدي عاليا من خلال التذكير بأن رئيس الحكومة يعلم أكثر من غيره أنها ليست موظفة عمومية ولا يمكنه بالتالي إعفاءها وهو الأمر الذي نادى به مؤيدو الحزب وكثير من المحطات الاحتجاجية وعلى رأسها تظاهرات العشرين من فبراير. سميرة سيطايل أضافت لمهامها مؤخرا صفة مسؤولة قطب التواصل في لجنة تنظيم مؤتمر الأمم المتحدة للمناخ بمراكش شهر نوفمبر القادم بتعيين من ملك البلاد.

بالمقابل، لم تكن هذه المرة الأولى التي تعلن فيه القناة انخراطها في إضراب عن العمل بل ربما كان لها السبق، على المستوى العربي، كأول قناة عمومية أعلن منتسبوها الإضراب عن العمل ونفذوه بداية الألفية، وحمل خلاله المذيعون الشارة على الشاشة كما في حالة إضراب يوم الرابع والعشرون من فبراير. خصوصية القناة الثانية المغربية أنها تحولت من قناة خاصة إلى قناة عمومية مع الاحتفاظ بطريقة التدبير التي ورثتها عن القطاع الخاص. وهو أمر لم تستطع الحكومات المتعاقبة تقبله خصوصا حكومة ما بعد "الربيع العربي" التي كان تمني النفس بإعلام يمجد إنجازاتها ويغفل الإخفاقات على ما يبدو. 

لكن الأكيد أيضا أن بلاغ الأمانة العامة لحزب العدالة والتنمية لم يخطئ في تصنيفه القناة الثانية كفاعل سياسي، فقد كانت دوما كذلك منذ تأسيسها كأول قناة خاصة عربية وفتحها المجال لغالبية التيارات السياسية ومكونات المجتمع المدني في وقت كانت فيه التلفزيونات العربية قلاعا أمنية حقيقية، وهو ما أسهم فعليا في التحضير لكل خطوات الانفتاح السياسي للدولة المغربية، قبل أن ينتهي المطاف بها إلى مجرد قاعدة بث للمسلسلات المدبلجة وللبرامج الترفيهية بعد تقزيم آفاق النقاش السياسي تلفزيونيا على الأقل.

لقد أظهرت الأزمة الجديدة أن الفصل بين مفهومي الإعلام العمومي بما يمثله من منبر لكافة التيارات السياسية بالبلد، والإعلام الحكومي كبوق دعائي للحكومة أمرا صار من الضروري الحسم فيه. فقد أظهرت السنوات الخمس الأخيرة، وما ميزها من وصول وافدين جدد إلى حكومات عدد من الدول العربية، كيف أن السعي لوضع اليد على التوجهات التحريرية لوسائل الإعلام التلفزيونية على الخصوص كان أساس المعارك التي أفضت في الأخير إلى ما أفضت إليه. 

وكان لفشل التيارات الإسلامية بكل من تونس والمغرب ومصر في بناء مؤسسات صحفية أو تلفزيونية قادرة على المنافسة، وفشل ما اقترفته أيدي بعضهم من "منابر إعلامية" في جذب القراء والمشاهدين بما يحقق الدعاية المطلوبة للحكومات و"إنجازاتها" الأثر الكبير على ما آلت إليها التجربتين المصرية والتونسية، وهو ما يتوجس حزب العدالة والتنمية من انتقاله إلى المغرب، ويفسر تشجنه في التعامل مع المشروع الإعلامي الأخير لإلياس العماري، الخصم اللدود لبنكيران، وكثير من المؤسسات الصحفية المستقلة بل مع قناة عمومية يفترض أنها تابعة لوزارة الاتصال خصوصا مع اقتراب موعد انتخابات تشريعية مصيرية. وكلنا يتذكر كيف أن بعض قيادات حركة النهضة أعلنت في الأيام الأولى لوصولها إلى تسيير الشأن العام بتونس أنها تعرض القناة العمومية (تونس 7 سابقا) للبيع ما دامت ممتنعة عن الاستجابة للرؤية الحكومية في تسيير القطاع، بل حركت قليلا من أنصارها لمحاصرة مقر القناة. 

لكن التجربة الأوضح كانت بمصر التي شهدت معركة حقيقية انتهت في الأخير ب"انتصار" القنوات التلفزيونية في حملة الحشد ضد محمد مرسي وحكومته والترويج لانقلاب سمّته ثورة شعبية وقدمت عليها الدليل صورا أخرجها خالد يوسف من على طائرات عسكرية.

انتهى الأمر بعبد الفتاح السيسي مخاطبا "شعبه": لا تسمعوا كلام أحد غيري.. لا تسمعوا كلام أحد غيري.

عبد الإله بنكيران وحكومته يكرران المعنى ذاته فالواضح أن الساسة، هنا وهناك وفي كل مكان، يريدون من الإعلام أن يصير مجرد رجع صدى لقهقهاتهم ولخطبهم العصماء.
التعليقات (0)