مقالات مختارة

شيفرة بوتين

عيسى الشعيبي
1300x600
1300x600
على مدى الأيام القليلة الماضية، التي تلت قرار الكرملين بسحب الجزء الأكبر من القوات الروسية المرابطة في سوريا، لم تتوقف ماكينة الإعلام الخاصة بمحور "الممانعة" عن التهوين من مفاعيل هذا القرار ومن مغزى توقيته، الذي فاجأ مختلف العواصم والمحافل. وذلك تارة بالادعاء أنه كان منسقا مع دمشق، وطورا بالقول إنه جاء بعد أن استكملت الحملة الجوية أهدافها، واطمأنت موسكو إلى استعادة الجيش، الذي أتت لوقف انهياراته، لزمام المبادرة مجددا. 

مثل هذا الترقيع الدعائي المعتاد من جانب المبتلين بسياسة الإنكار والمكابرة، وعقلية الهروب من مواجهة الحقائق الصادمة، غير جدير بالمناقشة، أو حمله على محمل الجد لدقيقة واحدة. فالقرار في حد ذاته أكبر من كل التخريجات الملفقة التي تحاول التقليل من حدة وقعه على الطرف الأول المخاطب به (نظام الأسد)، والتستر على مضاعفاته السياسية والعسكرية المتوقعة، ناهيك عن ارتداداته الزلزالية، وتأثيراته التعبوية والمعنوية التي لا حصر لها.

لذلك، ينبغي وضع كل هذا اللغو الإعلامي الساذج جانبا، لتركيز الضوء على فحوى القرار الروسي المثير بكل المقاييس، وسبر غور الدوافع التي أدت إلى اتخاذه على وجه السرعة، بلا مساومات تحت الطاولة، إن لم نقل بلا ثمن مجز، كان يمكن قبضه من جانب أطراف عديدة، لديها كامل الاستعداد لدفعه عن طيب خاطر، لاسيما وأن هذا القرار الدراماتيكي أتى في لحظة سياسية عصيبة، عشية الشروع بعملية تفاوضية لا مراهنات جدية على نجاحها في المدى المنظور. 

نتحدث هنا عن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، لاعب الشطرنج البارع، صانع هذه النقلة المشوبة بشيء من الغموض والعصبية، ونهجس ما في وسعنا لفك طلاسم هذا القرار المفاجئ لخصومه وحلفائه، وربما لكبار مساعديه، وكل المخاطبين بهذه الانعطافة في موقف دولة كبرى، اتخذته ونفذته بين عشية وضحاها، بلا مقدمات منطقية، ومن غير أسباب واضحة، الأمر الذي يصح معه القول، إن هناك صفحة مطوية، جعلتها "شيفرة بوتين" العصية على الفهم، قابلة لكل التأويلات المحتملة.

فقد بدا الرئيس الروسي كمن يقود فريق كرة قدم مهيمن على الملعب، يحوز على الكرة باقتدار، يهاجم بقوة ويسجل الأهداف، إلا أنه توقف عن اللعب فجأة، وآثر الانسحاب قبل أن تدوي صافرة النهاية، تاركا الفريق الآخر، وجمهور المتفرجين على المدرجات، ومعهم الملايين من متابعي المباراة أمام شاشات التلفزيون، في حيرة من أمرهم، يضربون أخماسا في أسداس إزاء هذا التصرف الذي لا يليق حتى بفريق متعثر، يدافع عن شباك مرماه بصعوبة.

في خضم أسئلة لا حصر لها، وإجابات شتى غير مؤكدة، وتأويلات يجري تطويعها على نحو رغائبي، بشكل يلائم كل طرف بعينه، يبدو كل ترجيح لدوافع قرار بوتين، وكل تعليل لأهدافه المضمرة، مجرد إضافة كمية إلى جملة التخمينات المتداولة، تزيد الصورة تشويشا، وتضاعف من حالة سوء فهم النوايا التي تقف وراء قرار الانسحاب المدهش من ميدان معركة لم تتحقق أهدافها المعلنة، وفي مقدمتها القضاء على ما سماه بوتين بالإرهاب.

وإذا كان للمرء أن يجتهد قليلا في تفسير هذا التراجع الروسي المباغت، فيما الحرب لم تضع أوزارها بعد، فإن من المنطقي القول، إن سببا جوهريا غير معلوم بعد، أدى إلى اتخاذ هذا القرار غير المنطقي، وإن أمرا محرجا يصعب البوح به الآن، أخرج "أبو علي بوتين" عن طوره، كأن يكون هناك تمرد من الأسد على ولي أمره، سواء تعلق الأمر باختلاف حول التكتيكات الحربية، أو اتصل بمتطلبات العملية السياسية الجارية في جنيف.

وإلى أن تتكفل الأيام، وحدها، بفك ألغاز "شيفرة بوتين"، وبيان ذلك الأمر الجوهري الذي أدى إلى هذه الخطوة الروسية غير المفهومة بعد، فإن على المرء، أيا كان موقفه من التدخل الروسي المباغت في الحرب، وأيا كان تقويمه لتداعيات هذا التراجع، ألا يبخس بوتين جرأته السياسية في كلتا الحالتين. فإذا كان قرار التدخل منطويا على شجاعة لا يمكن إنكارها، فإن قرار الانسحاب ينطوي، بدوره، على شجاعة أكبر، لا يقدر عليها سوى من يتمتع بصولجان الزعامة والروح القيادية، خصوصا وأن قرار الانسحاب أصعب على متخذه من قرار التدخل في مطلق الأوقات والحالات.

عن صحيفة الغد الأردنية
0
التعليقات (0)