مقالات مختارة

للنفط الرخيص جانب مشرق في دول الخليج

ناصر السعيدي
1300x600
1300x600
بيع البرميل من خام برنت -المؤشر المعياري الرئيس لسوق النفط العالمية- بسعر 115 دولارا أمريكيا. واليوم، بعد مرور أقل من عامين، هبط السعر إلى 45 دولارا أو حتى أقل. وليس من المستغرب أن يكون في هذا الانهيار صدمة هائلة للمملكة العربية السعودية ومشيخات النفط في الخليج، التي تعتمد على النفط لتحصيل نحو 85 في المئة من عائداتها.

وينبغي لها أن تدرك أن هذا الانخفاض، على النقيض من الانخفاضات التي شهدتها الأسعار في الماضي، لن يكون عابرا.

الواقع أن هذا الوضع "المعتاد الجديد" للنفط يعكس حقائق جديدة: فمن المحتم أن يكون النمو الاقتصادي في الصين -وبالتالي طلبها على النفط- أقل كثيرا؛ وستزداد كفاءة استخدام الطاقة على مستوى العالم، خاصة في ضوء التعهدات التي بذلت في كانون الأول/ ديسمبر في مؤتمر باريس بشأن تغير المناخ؛ كما يعمل الإبداع المعطل للنظم القائمة على جعل الزيت والغاز الصخريين، جنبا إلى جنب مع مصادر الطاقة المتجددة، أكثر قدرة على المنافسة إلى حد كبير.

ومن المؤكد مع عودة إيران وليبيا والعراق كمصدرين رئيسيين للنفط أن انخفاض أسعار النفط سيكون حتميا ودائما.

ينبغي للسعودية ودول الخليج الأخرى ألا تسمح بمرور هذه الأزمة دون أن تستفيد منها. وهي الآن لديها فرصة مثالية أخيرا لإجراء إصلاحات اقتصادية شاملة.

ولا بد أن يكون هدفها صياغة نموذج جديد للتنمية يعمل على تحريرها من الاعتماد على النفط والغاز. فمن الممكن أن تعمل المخزونات المالية من عائدات النفط المتراكمة من الماضي على توفير العون لدول مجلس التعاون الخليجي الست في الأمد القريب.

ولكن يتعين عليها أن تغتنم هذه الفرصة لإطلاق الإصلاحات البنيوية اللازمة لتحقيق النمو الاقتصادي المستدام، وتثبيت استقرار الاقتصاد الكلي، والاستغلال السليم والعادل للاحتياطيات من النفط والغاز.

وهذا يعني التنويع الاقتصادي، الذي لن يتسنى تحقيقه إلا عن طريق خفض حجم الحكومة وإزالة العقبات التي تعوق القطاع الخاص.

وسيساعد الإصلاح الجذري لنظام الكفالة، الذي يراقب وينظم العمالة المهاجرة، على إزالة عائق رئيس يحول دون تنقل العمالة. لكن يتعين على الحكومات أن تسارع أيضا إلى وضع الأطر القانونية والتنظيمية اللازمة للخصخصة وإنشاء الشراكات بين القطاعين العام والخاص.

ولكن، لم تتحرك سوى الكويت ودبي حتى الآن نحو السماح بإقامة الشراكات بين القطاعين العام والخاص، في حين تعتزم السعودية فقط خصخصة المطارات "جدة والدمام".

من الممكن أن تجتذب الخصخصة والشراكات بين القطاعين العام والخاص في مشاريع البينة الأساسية، والطاقة، والصحة، والتعليم، والنقل، والخدمات اللوجستية استثمارات محلية وأجنبية هائلة.

ويساعد على تحقيق الغاية ذاتها أيضا استنان تشريع يسمح للأجانب بالملكية الكاملة للشركات ويوفر الحماية اللائقة لحقوقهم في الملكية، ما من شأنه أن يجلب فائدة إضافية تتمثل في تشجيع المغتربين على الادخار والاستثمار محليا.

وتشهد مناطق التجارة الحرة في دبي على النجاح الذي يأتي مع التحرير وإزالة الحواجز التي تحول دون الملكية والإدارة الأجنبية.

ولا بد أن يحظى الإصلاح المالي أيضا بأولوية عالية. ذلك أن النفقات الحكومية وإعانات الدعم المسرفة تمثل نحو 8 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي غير النفطي "5 في المائة من مجموع الناتج المحلي الإجمالي" في دول مجلس التعاون الخليجي.

وتعمل إعانات دعم الطاقة -المتأصلة في اقتصادات مجلس التعاون الخليجي- على تشويه أنماط الاستهلاك والإنتاج؛ وإحباط محاولات الحكومات لتنويع الاقتصاد؛ وزيادة الضعف في مواجهة أسعار الطاقة الدولية المتقلبة.

ولن يعمل إلغاء إعانات الدعم على تحفيز الاستثمار في كفاءة استخدام الطاقة والطاقة الشمسية فحسب، بل ومن شأنه أيضا أن يعمل على توليد منافع كبيرة في مجالات البيئة والصحة العامة.

وعلى نحو مماثل، إذا كان لحكومات المنطقة أن تقدم تسعيرا يتسم بالكفاءة والعدالة للخدمات والمرافق العامة -بما في ذلك المياه والكهرباء والنقل- فستتمكن من خلق الحيز المالي اللازم لتعزيز خلق فرص العمل بالاستعانة بمخططات تربط بين التعليم والتوظيف.

ومن الممكن، بدلا من مزاحمة الإنفاق الحكومي للقطاع الخاص، تعزيز الإنفاق على مشاريع التنمية لحشد وإشراك القطاع الخاص.

تتلخص الحتمية الأخرى في تنويع الإيرادات الحكومية. والواقع أن النظام الضريبي السائد في منطقة الخليج لا يصلح لهذا الغرض، فقدرته على التأثير في سلوك القطاع الخاص محدودة، وهو يستبعد استخدام السياسة المالية لمواجهة التقلبات الدورية.

في الفترة من 2012 إلى 2014، كان متوسط عائدات الضرائب غير النفطية في دول مجلس التعاون الخليجي نحو 1.6 في المئة فقط من الناتج المحلي الإجمالي.

وكخطوة أولى، تتجه دول مجلس التعاون الخليجي نحو فرض أنظمة رسوم جديدة في أوائل عام 2018، بما في ذلك ضريبة القيمة المضافة، وضريبة الشركات، والضرائب العقارية، والرسوم على الوقود والتبغ.

وعند مستوى 5 في المئة، من الممكن أن تجمع ضريبة القيمة المضافة إيرادات متواضعة تبلغ نحو 1.5 في المئة إلى 2 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي.

ولكن لماذا نتوقف عند هذا الحد؟ إن فرض ضريبة على الكربون بنحو 0.52 من الدولار لكل لتر قد يجمع ما يزيد على 50 مليار دولار أمريكي سنويا للمملكة العربية السعودية، وبهذا ينخفض إلى حد كبير عجز الميزانية هذا العام، الذي من المتوقع أن يبلغ 90 مليار دولار.

وكخطوة ثالثة، يتعين على دول مجلس التعاون الخليجي أن تصدر الديون والصكوك "السندات المتوافقة مع الشريعة الإسلامية" لتمويل عجز الموازنة فضلا عن مشاريع التنمية والاستثمار في البنية الأساسية.

إن مستويات الديون الحكومية في دول مجلس التعاون الخليجي منخفضة، وبوسعها أن تتدبر عجزا معتدلا في الموازنة من دون المساس بالاستدامة المالية. ولكن تطوير أسواقها المالية من شأنه أن يسمح للقطاع الخاص باستغلال موارد دول مجلس التعاون الخليجي المالية الوفيرة المستثمرة خارج الخليج.

وأخيرا، يتعين على دول مجلس التعاون الخليجي أن تتحرك نحو زيادة مرونة أسعار الصرف والاستقلال النقدي.

كانت حكومات مجلس التعاون الخليجي تقليديا تلاحق سياسات توسعية خلال فترات الازدهار وتشد الحزام في فترات الركود. وقد أدى ربط عملات هذه الدول بالدولار الأمريكي إلى تفاقم هذا النمط المساير للدورة.

وفي حين يضفي هذا الربط على عملات مجلس التعاون الخليجي المصداقية، فقد أدى إلى منع الخفض الحقيقي لقيمتها وفشل في عكس التغيرات البنيوية العميقة التي طرأت على العلاقات الاقتصادية والمالية داخل دول مجلس التعاون الخليجي على مدار العقود الثلاثة الماضية، خاصة التحول بعيدا عن الولايات المتحدة وأوروبا ونحو الصين وآسيا.

بدلا من ذلك، ينبغي لدول مجلس التعاون الخليجي أن تربط عملاتها بسلة من العملات، تضم الدولار واليورو والين والرنمينبي.

وإذا ضمت السلة أيضا النفط، فسيكون بوسع دول مجلس التعاون الخليجي خفض القيمة بما يتماشى مع انخفاض السعر، ورفعها عندما يتعافى السعر.

خلاصة القول إن التنويع الاقتصادي الذي بُشِّر به طويلا بدلا من تنفيذه، أصبح الآن ضروريا لدول النفط الخليجية. والحاجة أم الاختراع، كما يقول التعبير المأثور. وينبغي لدول مجلس التعاون الخليجي أن تتقبله بسرور.

(عن صحيفة "الاقتصادية" السعودية، 1 تموز/ يوليو 2016)
التعليقات (0)