صحافة دولية

الغارديان: ماذا فعل البريطانيون في البصرة؟

الغارديان: انقسام سياسي ويأس في مدينة البصرة العراقية الغنية - أرشيفية
الغارديان: انقسام سياسي ويأس في مدينة البصرة العراقية الغنية - أرشيفية
نشرت صحيفة "الغارديان" تقريرا، للكاتب غيث عبد الأحد، ينقل فيه صورة عن الأوضاع في مدينة البصرة جنوب العراق، ويصف كيف يعيش فيها الفقر المدقع والغنى الفاحش، والمافيات التي تسيطر على مرافق الحياة كلها، بالإضافة إلى البنايات التي لم يكتمل بناؤها؛ بسبب الفساد.

يبدأ الكاتب تقريره بذكر قصة أبي كرار، وهو قبطان قارب صيد انتشر فيه الصدأ، وكان يعمل مع صيادين آخرين في مياه الخليج، عندما قابله الكاتب في الفاو، على بعد 50 ميلا جنوب البصرة، وكانوا قد عادوا للتو من رحلة صيد لهم، حالفهم فيها الحظ، واصطادوا ثلاث أسماك كبيرة في المياه الكويتية، وباعوها لتجار باكستانيين في المياه الإيرانية، محاولين تجنب خفر السواحل من الدول الثلاث، ولكن المبلغ الذي حصلوا عليه، وهو 1250 دولارا أمريكيا، غير كاف، مشيرا إلى أن تكلفة هذه الرحلات غير القانونية تكون باهظة أحيانا.  

وينقل التقرير عن أبي كرار، قوله: "تم اعتقالي أكثر من 30 مرة.. الكويتيون يضربوننا، والإيرانيون يسجنوننا، لكن ما هو الخيار أمامي؟ نحن شعب يتم الدوس عليه".

وتشير الصحيفة إلى أنه بعد مرور 13 عاما على غزو العراق، الذي أطاح بالرئيس السابق صدام حسين، فإنه لا يزال بلدا يعاني من الحرب، والفساد، والتمزق بين القوى السياسية والدينية، بالإضافة إلى أن هويته غير محددة، لافتة إلى أن "هذه الصدمة تبدو بشكل واضح في كبرى مدن العراق الجنوبية، مدينة البصرة، التي بقيت تحت السيطرة البريطانية لمدة ست سنوات بعد الإطاحة بصدام حسين، وهو ما سيسلط عليه الضوء مرة أخرى هذا الأسبوع، حيث ينشر تقرير لجنة تشيلكوت للتحقيق في قرار بريطانيا لدخول حرب العراق، وتصرف بريطانيا خلال الغزو، وما خلفه الغزو".

ويقول عبد الأحد إن آثار هذا الغزو تظهر جلية في أنحاء المدينة كلها، حيث يقول أبو كرار إن عمره 52 عاما، ويعمل منذ كان عمره 12 عاما، ويضيف: "عملت في قطف الفاكهة، وعملت بحارا، وعملت أستاذا، وخدمت في الجيش خلال الحرب مع إيران، وأنا الآن قبطان، لكن خلال تلك الأعوام كلها لم أعش أصعب من الفترة التي مرت من 2003 وحتى الآن". 

ويقول أبو كرار للصحيقة إن "صدام بدأ يدمر هذا البلد، عندما بدأ الحرب مع إيران، فأصبحت أرضنا أرض حرب، وفرت عائلتي إلى كربلاء، ودعيت أنا للخدمة العسكرية، وقضيت سبع سنوات جنديا، ورأيت عشرات آلاف الرجال يعبرون هذه المياه، موجة إثر موجة، فقط ليقتل بعضهم بعضا، وعندما عدنا بعد الحرب كانت قواربنا الخشبية وجدناها حرقت، ومزارعنا تحولت إلى صحراء قاحلة، حيث حفرت فيها خنادق الحرب، فلا يمكن لشيء أن ينمو، حتى يومنا هذا".

ويلفت التقرير، الذي ترجمته "عربي21"، إلى أنه من المفارقات، أن موقع البصرة الجغرافي، الذي جعلها مركزا للتبادل التجاري والحضاري، جعلها أيضا البوابة التي تمر منها الجيوش الغازية كلها.

ويكمل أبو كرار حديثه قائلا للصحيفة إنه قيل لهم لدى دخول القوات البريطانية، والإطاحة بصدام، إن الأمور ستتغير للأفضل، ثم نظر بيأس، نظرة من كان ضحية خداع، لكنه ابتسم ثانية، وقال: "لكنني استفدت شيئا واحدا، وهو أنني مع الفوضى، وغياب الحكم، قمت ببناء كوخ لي على أراض حكومية". 

ويذكر الكاتب أن الكابتن يعيش هو ومجموعة ممن بنوا لأنفسهم مساكن، على أراض حكومية، استولوا عليها حول البصرة؛ هروبا من فقر الريف، مشيرا إلى أن بيته مبني من الطوب على أرض مهجورة، حيث إنه من باب بيته يمكن للمرء أن يرى خلف خندق مليء بمياه الصرف الصحي الخضراء، استادا حديثا يتبع لمدينة البصرة الرياضية، التي كانت أحد المشاريع الكثيرة، التي بدأت بها الحكومة عندما كان برميل النفط بمئة دولار، وكانت البصرة تنتج ما قيمته مليارات الدولارات من النفط الخام. 

ويستدرك التقرير بأنه رغم أن سعر النفط انخفض إلى نصف ما كان عليه، إلا أن مئات آبار النفط لا تزال تعمل، ومنذ عام 2010 وما بعده، تزايد عدد الفنادق ووكالات السفر والمقاهي والمطاعم بشكل كبير، وأصبحت المدينة مركزا للشركات الدولية، لافتا إلى أن هناك سوقا في ميدان "بصرة تايمز سكوير"، الذي تباع فيه الماركات الدولية، بالإضافة إلى عدد كبير من معارض السيارات الملآى بصفوف سيارات الدفع الرباعي.

وتنوه الصحيفة إلى أن أسعار البيوت في بعض مناطق المدينة تصل إلى أكثر من أسعارها في دبي أو بيروت، مشيرة إلى أن الورود الطازجة تصل من هولندا إلى متجرين متخصصين ببيع الورود للنخبة الغنية، التي أصبحت ثرية من الاتجار بالنفط، حيث يقول أبو كرار: "أعرف أن هناك أموالا في البصرة، وأستطيع رؤية الأموال في البيوت الفخمة، لكن لا أستطيع لمسها".

ويستدرك عبد الأحد بأنه خلف هذه المظاهر الخداعة للشوارع الراقية، المزروعة بأشجار النخيل المستورد، والمضاءة بشكل جيد، تقع المدينة الحقيقية، حيث تجري مياه الصرف الصحي دون معالجة في القنوات التاريخية للمدينة، التي تحول بعضها إلى مستنقعات للبلاستيك والمهملات، لافتا إلى أن الملعب وكثيرا من الجسور والبنايات العامة، بقيت غير مكتملة البناء، حيث أدى انخفاض سعر النفط إلى توقف الحكومة المحلية عن دفع فواتيرها، وكغيرها من مناطق العراق، تم تبديد الأموال الموجودة بسبب الفساد. 

ويذكر الكاتب لقاءه بالقاضي وائل عبد اللطيف، الذي أصبح محافظ محافظة البصرة بعد الاحتلال البريطاني لها، ويقول إنه عرض له صورا يحتفظ بها لنفسه في تلك الفترة، حيث تظهره إحدى الصور وهو يتحدث مع رئيس الوزراء البريطاني الأسبق توني بلير خلال إحدى زياراته المفاجئة للبصرة، ليزور الجيش البريطاني.

وينقل التقرير عن القاضي قوله إن "البصرة كانت أول محافظة في العراق يتم فيها تنظيم انتخابات، حيث قام البريطانيون بعمل جيد، وطلبت منهم بناء جسر، فقام الجيش ببناء الجسر خلال شهر"، وأضاف القاضي: "كنت على علاقة طيبة مع القادة العسكريين كلهم، ومع بلير أيضا، وقد دعيت مرة لمقابلة الملكة".

ويتابع القاضي: "(لكنهم) لم يريدوا لنا أن ننجح، إن الإيرانيين عملوا ضدنا من اليوم الأول مباشرة، من خلال أحزابهم الإسلامية، التي هيمنت على المجلس البلدي، فكلما أردت القيام بمشروع كبير، أو جلب استثمار للمدينة، كان أعضاء المجلس يقفون ضدي، ويقاومون أي مشروع جديد". 

وتستدرك الصحيفة بأن أبا هاشم، وهو مسؤول أمني شيعي رفيع المستوى، وله علاقات حميمة مع المخابرات الإيرانية لأكثر من عقدين، يختلف مع القاضي، حيث كان أبو هاشم من أوائل من دخلوا البصرة، قادمين من إيران، بعد سقوط صدام، ويقول إن الإيرانيين كانوا عام 2003، لا يعرفون كيفية التعامل مع الوضع الجديد، كما كان البريطانيون، مشيرا إلى أنه بعد سقوط البصرة بأيام، دخل رتل من السيارات العسكرية من إيران، يحمل مجموعة صغيرة من المقاتلين الشيعة المخضرمين وضباط المخابرات، "الذين كانوا متمركزين في إيران على مدى العقدين السابقين"، وقطع الحدود الإيرانية، واتجه نحو البصرة.

ويكشف عبد الأحد عن أن الهدف المعلن من دخول هذا الرتل، كان هو التمهيد لإعادة توطين القوى الشيعية المبعدة الرئيسية في العراق، مستدركا بأن الهدف الرئيسي كان اختبار رد الفعل البريطاني لوجودهم. 

ويقول أبو هاشم للصحيفة: "كانت فترة ساد فيها الارتباك في العراق عندما دخلنا، لم نكن نعرف ماذا سيحصل، في إيران كان يقال لنا دائما إن حربنا مع الشيطان الأكبر (أمريكا) وبريطانيا، فهل سنحارب الأمريكيين والبريطانيين الآن؟"، ويضيف أن "الالتباس ذاته كان سائدا في إيران بين من يرى وجوب محاربتهم، ومن يرى أن عليه (الانتظار ورؤية ما سيحصل)، وهو التيار الغالب". 

ويبين التقرير أن رتل السيارات العسكرية دخل من الحدود الإيرانية إلى البصرة، دون أن يتعرض له أحد، حيث يقول أبو هاشم إنه أدرك حينها بأن البريطانيين لن يكتفوا بعدم إطلاق النار عليهم فقط، بل إنهم سيكونون حلفاءهم الجدد، وإنهم سيعتمدون على الأحزاب الإسلامية الشيعية لإدارة المدينة، وإعطاء الناس شعورا بعودة الأوضاع الطبيعية.

وتستدرك الصحيفة بأنه بعد أن اتخذ العائدون من البنايات الحكومية مقرات لهم بفترة وجيزة، بدأت الاغتيالات للبعثيين وضباط الجيش السابقين، حيث يقول أبو سلام، وهو ناشط حقوقي ونقابي في البصرة: "روعت الاغتيالات المجتمع كله".

ويضيف أبو إسلام للصحيفة: "قامت الأحزاب الجديدة بتقسيم المجتمع إلى منتصر ومهزوم، المنتصر الآن هم الشيعة، الذين منعهم صدام من ممارسة شعائرهم الدينية، والمهزوم كان السنة، الذين تم وصمهم جميعا بأنهم بعثيون، مع أن كثيرا، إن لم يكن أكثرية البعثيين في البصرة كانوا شيعة، ولم أصدق أبدا بأن الاحتلال يمكن أن يؤدي إلى بناء دولة، وكان من الواضح أن ذلك لن ينجح".

ويجد الكاتب أنه مع أن البريطانيين في البصرة، كما الأمريكيين في بغداد، تحدثوا عن التقدم والديمقراطية، إلا أن القادمين الإسلاميين الجدد هم من سيطر على المشهد، وشكلوا حجر الأساس في قوات الأمن الجديدة.

ويقول أبو سلام: "البصرة هي المكان الذي تتركز فيه ثروات العراق، ومن الأيام الأولى أصبحت السياسة في المدينة صراعا بين الأحزاب على أي حزب يسيطر على الموارد، وكانت القوات البريطانية تحاول بناء علاقات مع تلك الأحزاب كلها، وتتجنب الصدام مع أي منها، وبأي ثمن". 

وبحسب التقرير، فإنه في ذلك الوقت، وجدت مجموعة من الشباب الفقراء المتطرفين، يقودهم رجل الدين الشيعي مقتدى الصدر، مكانا متميزا لهم في محاربة البريطانيين، لافتا إلى أن عددا من المليشيات الأصغر حجما، عاشت في شوارع البصرة، كمافيات صغيرة، تأخذ نصيبها من ثروة المدينة.

ويشير الكاتب إلى أن المليشيات بعلاقاتها المتشابكة مع القبائل وعصابات التهريب، سيطرت على مناحي الحياة الاقتصادية كلها في البصرة، حيث كان هناك 62 رصيفا عائما لتهريب النفط، وعملت تسع "وحدات أمن مختلفة" في الميناء، تجمع الرسوم والرشاوى، لافتا إلى أن المليشيات والأحزاب الدينية أصبحت هي من تطبق "القانون"، وتوزع المحسوبيات. 

ويوضح أبو هاشم هذه الظاهرة قائلا إنهم عانوا في إيران، وكان على الشخص أن يقرأ ويعلم نفسه، حيث لم يقم الإيرانيون بشيء تجاههم، ولم يحاولوا تطويرهم، ويضيف أنه كان يقول لأبناء بلده هناك إنهم إذا عادوا إلى العراق سيكرههم الناس؛ لأنهم كانو مبعدون، ويستدرك قائلا: "لكني كنت مخطئا، حيث اكتشفت أنه حتى أبسط المبعدين، ممن لم يعمل شيئا في إيران سوى التسكع، أصبحوا يشغلون مناصب".

والتقى كاتب التقرير بمحسن، وهو رجل طويل القامة، وبنيته تشبه بنية مصارع، وله عينان صغيرتان حادتان، في أحد مقاهي البصرة، حيث قامت على خدمتهما فتاتان، إحداهما تلبس تنورة قصيرة، والأخرى تلبس بنطال جينز ضيقا، ما أثار استغراب الصحافي، فقال له محسن: "لا تستغرب، هذه الأماكن كلها تحرسها مليشيات، وليس فقط المقاهي، بل وكالات السفر، ومعارض السيارات أيضا، حيث تعطي هذه الأماكن هدايا شهرية لحماتها".  

وتفيد الصحيفة بأن محسن هو واحد من الجيل الجديد من المخابرات العراقية، وتصفه بأنه "شاب متعلم، المفروض أنه ليس طائفيا"، حيث يقول إنه كان مع 88 من زملائه الضباط الذين انضموا للمخابرات بعد التخرج من الجامعة، ودرسوا أربع سنوات أخرى، ويضيف: "عندما قدمنا إلى البصرة كنا متحمسين جدا، كنا نظن أننا سنقضي على العصابات والمليشيات، لكن أدركنا بعدها أنها القوى المسيطرة في المدينة، وليست الحكومة، فانسحبنا، حتى إن المسؤولين رسموا لنا خطوطا حمراء لا نتجاوزها، فهم يعرفون محدودية إمكاناتهم". 

ويتابع محسن قائلا للصحيفة إن "البصرة تديرها المافيات، وعلى رأسها المجلس البلدي؛ حيث يقوم أعضاء المجلس بتقاسم المشاريع بينهم، ويجب رشوتهم في كل مرحلة، وهناك حيتان يديرون مشاريع النفط والكهرباء، وإن وقفت في وجههم سيضربونك، إنهم مستبدو هذه المدينة".

وبحسب محسن، فإن عشيرتين قويتين في البصرة كانتا حتى سنوات قليلة تديران شبكة واسعة لتهريب النفط، و"كان بعض أعضاء العشيرتين قياديين كبارا في مليشيا مقتدى الصدر"، وأصبحت العشيرتان اليوم من أكبر مقاولي البناء في المدينة، حيث تعملان مع كبار شركات النفط. 

وينقل التقرير عن رئيس لجنة الأمن في المجلس البلدي وضابط المخابرات السابق، الحاج أبي حسن، قوله: "عندما تضعف الدولة، ويستشري الفساد، تصبح القبيلة قوية، وتنتشر المليشيات، حيث استغلت بعض الفرق العسكرية (الشيعية) الحرب ضد تنظيم الدولة لتسليح نفسها وحمل السلاح، لكنها بقيت هنا في البصرة، ولم تصل إلى الجبهة، وعندما تسألهم لماذا يتسلحون؟ يقولون لك إنهم في انتظار إضعاف تنظيم الدولة قبل تمزيقه". 

وتختم "الغارديان" تقريرها بالإشارة إلى قول محسن إنه أدرك من فترة أن بنيته القوية، وسلاحه، ورتبته، لا تعني شيئا في البصرة، حيث لا احترام للدولة ولا لقوات الأمن، لكنه قبل مغادرة المقهى، أشار إلى شرطي مرور في الخارج، يعمل حتى وقت متأخر في الليل في تنظيم حركة المرور، وقال: "أترى شرطي المرور هناك؟ إنه الشخص الوحيد الذي يعمل بحق مع الدولة؛ لأنه يفعل شيئا في الواقع، بينما بقيتنا إما فاسدون أو عرضة للترهيب".
التعليقات (0)