مقالات مختارة

درس آخر من انقلاب الغرب على تركيا

سليم قلالة
1300x600
1300x600
انقلب الغرب على تركيا سريعا، بعد بضعة أسابيع تحوّلت تركيا التي كانت حليفا استراتيجيا، إلى طرف مشكوك فيه، وتحول قائدها الذي كان نموذجا للديمقراطية في بلد مسلم، إلى "دكتاتور" يريد إعادة العمل بحكم الإعدام ضاربا بالتزاماته السابقة عرض الحائط.. هل من درس نستخلصه لمستقبلنا من تركيا؟

بالفعل تكاد أغلب وسائل الإعلام الغربية تتفق على انتقاد سياسة "أردوغان" بعد محاولة الانقلاب الفاشلة الأخيرة، إحصائيات تُقدَّم بشأن عدد المعتقلين، وانتقاد واضح لما سُمِّي بحملة تطهير كانت مسبقة ضمن الذين اعتبروا موالين للانقلاب، وتحسيسٌ للرأي العام العالمي ضد ما يحصل في تركيا بعد الانقلاب من قضاء على هيئات المجتمع المدني والنقابات وسلك القضاة والموظفين العمومين، واعتبار كل ذلك منافيا للديمقراطية وحقوق الإنسان وعودة بتركيا عقودا إلى الوراء بعيدا عن التوجه الديمقراطي الذي كان محل إشادة أشهر فقط سابقة لمنتصف شهر يوليو 2016... 

ما الذي حدث حتى غيّرت الدول الأوروبية موقفها ولم تعد تقف موقفا مبدئيا من الانقلابات باعتبارها النفي التام للديمقراطية؟ لِمَ لَمْ يتم التنديد بالمحاولة باعتبارها منافية للأعراف الديمقراطية ولا يُمكن أن تحدث إلا في الدول التي لم تعرف حُكمَ المؤسسات ولا المجتمع المدني؟  لماذا يشعر "أردوغان" بأن حلفاءه الغربيين قد تخلوا عنه وكأنهم كانوا يتمنون رحيله ولو من خلال انقلاب عسكري؟

يبدو بالفعل أن هناك مسائل بَدَت اليوم تتضح، ليس فقط بشأن علاقات الغرب مع تركيا إنما بشأن علاقات الغرب بما يُعرف بقيام ديمقراطية في بلد مسلم، ما حدث بتركيا ينبغي أن يجعلنا نُراجع بعمق مدى قناعة الغرب بجدوى الديمقراطية في العالم الإسلامي،  بل يجعلنا نتجه إلى قناعة مفادها أن هناك شكًّا باستمرار لدى الحكومات الغربية في إمكانية قيام ديمقراطية في العالم الإسلامي، وأنه عليهم أن يبحثوا عن أكثر من ضمان لكي تتحول التجربة الديمقراطية في هذا الجزء من العالم إلى تجربة ناجحة متكيفة مع متطلبات العصر بالمقاييس التي يريدونها...

 ما حدث بتركيا وما حدث قبلها في الجزائر سنة 1992 وفي مصر بعد الانقلاب على الرئيس مرسي، يبين أن مَكْمَن الخوف الغربي هو في مستوى السؤال التالي: وماذا لو تَمكَّنَ بلد مسلم من الاستفادة من التجربة الغربية دون أن يَتعَلْمَن (يفصل الدين عن الدولة) أو دون أن يقبل بجميع القيم المفروضة عليه بما في ذلك تلك الحرية الفردية المطلقة التي تصل إلى الزواج المثلي وذلك العدل المحدود الذي يرفض تطبيق مبدأ النفس بالنفس ويرفع شعار لا للإعدام؟

أليس هذا ما بدا واضحا من خلال الموقف الغربي غير الرافض للانقلاب في تركيا؟ ألا يؤكد هذا ذلك الشعور العام الذي ساد لدى الغربيين في السنوات الأخيرة بأن "أردوغان" يكون قد تجاوز حدود التعامل مع الديمقراطية وأصبح بإمكانه أن يُحوّلها على مسارها التغريبي ليَصنع منها أداة وفقط أداة لتنظيم التداول على الحكم من غير نقل محتواها الفكري والقيمي الذي يراهن الغرب عليه لأجل بناء مجتمعات قريبة منه من حيث طبيعة المنظومة الفكرية بل ومندمجة في منظومته غير قادرة على أن تكون كما تريد نفسها أن تكون...؟ يبدو أنها هي ذي الحقيقة وليست افتراضات نطلقها جزافا، حقيقة تأكدت أكثر من مرة من خلال خوف زعماء أوربيين مرموقين من أن تنشأ مرة أخرى دولة مسلمة في القارة الأوربية أو قريبة منها، لقد سُجِّل على الرئيس الفرنسي ميتران أنه أسر لبعض مقربيه إبان حرب الإبادة على مسلمي البوسنة أنه لا مجال لظهور أندلس أخرى في أوروبا، مؤيدا بهذه الكيفية حملات الإبادة الجماعية التي كانت تُمَارس آنذاك على المسلمين في هذا البلد...

إذا انطلقنا من هذه الخلفية التاريخية -التي لم يستطع الأوروبيون التخلص منها- نستطيع فهم لماذا يشعرون بنوع من السعادة عندما يسقط حاكم في بلد مسلم من خلال الدبابة، ولو كانت الديمقراطية هي التي أوصلته إلى الحكم، وما نموذج الرئيس مرسي ببعيد، حيث على خلاف ما كان للغربيين أن يفعلوه، تقبلوا بكل بساطة الإطاحة عسكريا به، وهو المنتخب بطريقة لا غبار عليها، بل إن بلدا مثل فرنسا سارعت لتعزيز الحكم العسكري الجديد بترسانة من الأسلحة أسابيع فقط بعد الانقلاب.

تِلكم هي إذن حقيقة الديمقراطية التي يريدونها أن تَطرق أبوابنا، ديمقراطية لا تقوم فقط على تكريس التداول على الحكم بالطرق السلمية، إنما تقوم بمهمة تحويل المجتمع عن طبيعته المسلمة، وإلا فإنها لم تحقق أهدافها، وينبغي أن تتغير، وهو ما علينا انتظاره في كل البلاد الإسلامية، التي بدأت خطواتها الأولى نحو الديمقراطية وهي تظن أنه بإمكانها تكييفها مع حقائقها الاجتماعية والثقافية، مثل تونس، وكل تلك الدول التي تحاول البحث عن الانتقال الديمقراطي مع الحفاظ على نموذجها الثقافي وبنائها القيمي سليما، ولو بطبيعة مذهبية يمكننا القبول بها مرحليا، لما لها من تأثير على مزيد من الانقسام بين المسلمين بمذاهبهم المختلفة (العراق، إيران).

ما يحدث بتركيا يدخل ضمن هذا السياق، ولذا فإننا نتوقع لـ"أردوغان" أياما عصيبة في معاملاته مع الأوروبيين والأمريكيين بالتحديد، ولعل مخطط السعي للإطاحة به يكون بدأ بجد بعد فشل الانقلاب وليس قبله، يتجلى ذلك من خلال كل تلك التحاليل والتوقعات التي أصبحت لا تراه إلا دكتاتوريا في ثوب جديد، ومن خلال كل تلك المحاولات لمنعه من استئناف مفاوضاته للالتحاق بالاتحاد الأوروبي، وهو ما سيحدث بالفعل، وما فهمه "أردوغان" نفسه بكل وضوح، وما دفعه إلى اللجوء إلى اختيار مبدأ أفضل طريقة للدفاع هي الهجوم: بالتوجه داخليا إلى تعزيز قبضته على الحكم والقضاء على خصومه والإعلان في التراجع عن ما وعد به من إلغاء لحكم الإعدام، وخارجيا بالتوجه هذه المرة نحو الشرق إلى روسيا.

وليس من قبيل الصدفة أن يستقبله "بوتين" في قصر يرمز إلى العهد القيصري، كما أنه ليس من قبيل الصدفة أن يكون الموضوع الأول بينهما هو كيفية الاتفاق بشأن أنبوب الغاز الروسي الذي سيُلبي حاجات تركيا ويكون وسيلة للضغط على الأوربيين، لقد بدا وكأنهما معا يريدان أن يدعما بعضهما البعض لتعزيز موقفها من التعامل مع المحيط الغربي المناوئ، وإِنْ مازالا مختلفين بشأن الملف السوري، وقد يختلفان مستقبلا بشأن أي إسلام ينبغي أن يسود في المنطقة، ولكنهما إلى هذه اللحظة لا يريان مانعا من أن يقفا معا، فالموجة الغربية التي تواجههما معا واحدة، ليتصديا لها معا وبعدها لكل حدث حديث...

هكذا تبدو تجربة بلد سعى لاعتماد الديمقراطية أسلوبا في تسيير شؤونه الداخلية، وأراد أن يبقى متميزا، وهكذا علينا أن نستفيد من الدرس: الديمقراطية لن تُقدَّم لنا دون مقابل أو على طبق من ذهب... ولن يُقبل مِنَّا السعي لتكييفها مع خصوصيتنا.. وفي هذا درس لمن أراد أن يعتبر.  

الشروق الجزائرية
0
التعليقات (0)