كتاب عربي 21

قفا نبك من ذكرى صلالة

جعفر عباس
1300x600
1300x600
تغزلت في مقالي هنا الأسبوع الماضي بمفاتن حبيبتي الجديدة صلالة، التي عشت في حضنها الحنون مع عائلتي ثمانية أيام بلياليها مسحورا منبهرا، وما زلت أذكر وقفتي على قمة جبل سمحان متأملا عظمة الواهب المنّان، وكأني بالأشجار والأحجار تتساءل "فبأي آلاء ربكما تكذبان"، ثم شققت الطريق عبر واد ينضح عافية وبهاء، متجها إلى مدينة مرباط، وعلي الجارم يهمس: يا نسمة رنّحَت أعطاف وادينا / قفي نحييك أو عوجي فحيينا.

وكلما تغلغل الهواء العليل في مسام جسمي، جاء إبليس ليذكرني: أيام وتعدي، وتعود إلى بقعة أخرى في منطقة الخليج التي لابد دون دنانيرها وريالاتها ودراهمها من لسع الحر، فأقول لإبليس وهل لي سوى الساعة التي أنا فيها؟ وأتعمد إغاظته فأنزل من السيارة، وأسير في ثنايا واد يتعطر برائحة أشجار اللبان والزهر مختلف الألوان، التي تستحم بماء عذب، بعضه يتدفق من ثنايا الصخر والبعض الآخر يسيل ناعما من السماء، ويتناهى إلى أذني غناء ولادة بنت المستكفي: وقانا لفحة الرمضاء واد / سقاه مضاعف الغيث العميم / نزلنا دوحه فحنا علينا / حنو المرضعات على الفطيم / وأرشفنا على ظمأ زلالاً / ألذ من المدامة للنديم.

صلالة عروس محافظة ظفار في سلطنة عمان فاتنة ولكن محتشمة، وبالتالي فإنها لا تروق إلا للسياح المحتشمين، وأعني بذلك أنها من أصلح الأماكن في العالم للسياحة العائلية، فحسنها ليس مجلوبا بتطرية كحسن الأماكن الحضرية، ويأبى حبيبي أبو الطيب المتنبي إلا أن أفسح له مكانا في أذني فيهتف بصوته الصداح "ما أوْجُهُ الحَضَرِ المُسْتَحسَناتُ بهِ / كأوْجُهِ البَدَوِيّاتِ الرّعَابيبِ / حُسْنُ الحِضارَةِ مَجلُوبٌ بتَطْرِيَةٍ / وَفي البِداوَةِ حُسنٌ غيرُ مَجلوبِ / أينَ المَعيزُ مِنَ الآرَامِ نَاظِرَةً / وَغَيرَ ناظِرَةٍ في الحُسنِ وَالطّيبِ/ أفدِي ظِبَاءَ فَلاةٍ مَا عَرَفْنَ بِهَا / مَضْغَ الكلامِ وَلا صَبغَ الحَواجيبِ / وَلا بَرَزْنَ مِنَ الحَمّامِ مَاثِلَةً / أوراكُهُنَّ صَقيلاتِ العَرَاقيبِ"... (والبداوة - يا رعاك الله - هي الأصالة فلا تصفوا البدو بأنهم "بدائيون").

ونحن نشق طريقنا من جبل سمحان إلى مدينة مرباط، هبطت بنا السيارة إلى منخفض، ثم أوقف سائقها المحرك تماما، فحسبت أن السائق به مس وأن السيارة مسكونة. فقد بدأت تزحف ببطء، ولا غرابة في أن تتدحرج سيارة بسرعة أو ببطء من مكان مرتفع إلى آخر منخفض، ولكنها كانت وقتها تزحف صاعدة من تلقاء نفسها، ثم انتبهت إلى أن عددا من السيارات من أمامنا ومن خلفنا أيضا، تمشي الهوينا صاعدة في نفس مسارنا وفي المسار المعاكس، وأزال السائق حيرتي: هنا تتولى الجاذبية تحريك الأشياء.

وجاءني صوت الراوي في رائعة أديبنا الراحل الطيب صالح "بندر شاه": أحسست كأنني أسير في الهواء، سابحاً دون مشقة، والأعوام تنحسر عن كاهلي، كما يتخفف المرء من ثيابه ..... كان المكان صامتاً، لا كما تنعدم الضجة. ولكن كأن النطق لم يخلق بعد... ومرت بي لحظة إدراك سريعة، عابرة، عرفت فيها كل شيء، كأنني في تلك اللحظة فهمت سر الحياة والكون.. (هذه هي ثنائية الفوضى والنظام).

لم يكن فراق صلالة سهلا على قلبي، ومن ثم وقوفي هذا على طلل الذكريات، مقرونا بعهد قطعته على نفسي "لابد من صلالة لو امتد العمر"، ومن خصالي الحميدة القليلة الوفاء للناس والأمكنة التي تضفي على حياتي البهجة وتغسل عني أدران الأحزان الخاصة والعامة، ومن بين تلك الأمكنة أمارة عسير في جنوب السعودية، التي عشقتها وعشقتني وعشق ناقتها بعيري، فهي مكان يغسله الله بالماء والبَرَد، وتتجلى فيه روعة الأشياء، وحاضرتها أبها بهية يقول عنها كل من زارها إنها تعيد العجوز صبيا، وقد زرتها ست مرات في ست سنوات متتالية، وكنت في كل مرة أقف فوق الجبل الأخضر أو جبال  السودة وأهتف: طز في سويسرا (وكلمة طز ليست نابية وإن كان لفظها يوحي بذلك فهي كما ذكر غيري مرارا، تعني "الملح"، وصارت دارجة لأن الملح كان معفى من قبل الإدارة التركية العثمانية في الدول العربية من الضرائب/ الجمارك، فكان التجار يتحايلون على الجُباة، بزعم أن ما في أكياس وجوالات متاجرهم "طز"، ومن ثم صارت مفردة تعبر عن الاستخفاف).

عسير منطقة ذات ربيع دائم، وكل شيء فيها جميل، بل إن أبناءها "الأصليين" يتجولون في الشوارع وأطواق ورد حول رؤوسهم، وأينما ذهبت في عسير لا تقع عينك إلا على الأزاهير ويتسلل إلى أنفك عبير الأكادي والأقاحي (نبتات ذات زهرة بيضاء ورحيق أصفر) والتين. باختصار تجد فيها أوركسترا ترحيب من الشجر والحجر والزهر تجعلك في حالة يسميها الصوفيون "الوجد"، ولكن يا ويلك من قرود أودية تهامة، التي تسرق الكحل من العين وتنصب الكمائن للمسافرين والجوالة، وتخطف منهم ما يصلح طعاما لها وما لا يصلح.

قلت في مقالي هنا الأسبوع الماضي، أن غايتي من التغزل بمفاتن صلالة، ليس الترويج للسياحة فيها لأنها لا تحتاج لوسيط أو سمسار في هذا الصدد، ولكن أن أقترح أمرا على "حركة تحرير عربي21"، ولكن الاستطراد استهلك مجددا المساحة المخصصة لمقالي الأسبوعي، وأرجو أن يوفقني الله في طرح اقتراحي الأسبوع المقبل.
1
التعليقات (1)
احمد عبدالصمد
السبت، 24-09-2016 08:43 م
استاذي العزيز .. نشكرك جزيل الشكر والحب والعرفان لشخصك الكريم على الاسطر الجميله التي نبل قلمكم في مدينتا صلالة الجزء الجنوبي من عماننا الحبيبه .. يااهلا وسهلا بيك اساتذنا تشريف والله . استاذي حركة تحرير عربي 21ماذا تعني بها استاذي..

خبر عاجل