مقالات مختارة

الدخول في قلب معمعة العقلانية

علي محمد فخرو
1300x600
1300x600
إذا كنا ننشد إدخال عنصر العقلانية في الثقافة العربية، وهو مطلب نادى به الكثيرون من المفكرين العرب، فعلينا أن ننظر في بعض المقولات المتعلقة بهذا الموضوع.

من هذه المقولات الخلط بين تعبيري المخ والعقل. فالعقل ليس نتاج التفاعلات الكيميائية والكهربائية في مخ الإنسان، كما يحاول بعض الباحثين في حقل دراسة الأعصاب أن يؤكدوا عليه. ولا ينكر أحد تأثير تفاعلات المخ تلك على العقل وتسبُّبها في حدوث بعض الأمراض العقلية والنفسية.

لكن أهم مكون لعقل الإنسان هي التفاعلات الاجتماعية فيما بين دماغ هذا الإنسان وبين أدمغة البشر الآخرين في محيطه الاجتماعي. وهذا يتم من خلال أشكال لا تحصى من وسائل التفاعلات، وعلى رأسها كل أنواع الكتابات والتعبيرات الفنية والأدبية والتوجيهات الدينية والمناقشات الخاصة والعامة ،سواء عن طريق وسائل الإعلام أو عن طريق وسائل الاتصال الاجتماعي. 

عقل الإنسان هو حصيلة ما وصل للفرد من أقوال الأنبياء والفلاسفة والأدباء والمفكرين على مستويات العائلة والمدرسة والجامعة والساحات العامة، وعلى مقدار تفاعل ذلك الإنسان مع كل ذلك.

مدرسة علم الأعصاب الفسيولوجي وقريبه علم الأعصاب النفسي لا تعطي الأهمية القصوى لمسألة تغيير قناعات المجتمعات والبشر من خلال النقاش العام، من مثل تغيُر القناعات تجاه حقوق المرأة والطفولة وحماية البيئة وبعض العادات الاجتماعية وحقوق الإنسان ونبذ الحروب. 

وبالطبع، نحن هنا نتحدث عن العقلانية، وليس عن الحكمة، التي هي أعلى مراحل العقلانية التي تحكمها كوكبة من القيم الأخلاقية والروحية ومن المشاعر الإنسانية.

إذن، فدراسة موضوع عقل الإنسان وتكوينه وأمراضه يجب ألا تكون حكرا على علماء الأعصاب، وإنما يجب أن تكون في قلب العلوم الاجتماعية والتاريخية.

كل ما ذكرناه سابقا يتعلق بالعقل الفردي. وفي الحال يطل موضوع العقل الجمعي أو المجتمعي برأسه. وفي الحال أيضا يطل موضوع نوع العقل الذي نتحدث عنه ونريد تربيته: العقل النظري أم العقل العملي. ولا يظنن أحد أن هذه الأسئلة هي ثرثرة أكاديمية. فالمفكر المغربي عبدالله العروي يؤكد أن التراث الفكري العربي الإسلامي يدور كله حول العقل. وعندما كتب جمال البنّا عن أصول الشريعة ذكر بأن الأصل الأول هو العقل. 

ثم هل ننسى قصة المعتزلة وطروحاتهم حول العقل وأهميته في فهم النص وفي طرح التساؤلات الدينية الكبرى؟ فإذا كان الأمر كذلك، يسأل الإنسان نفسه، فلماذا لم يؤد ذلك الشغف بالعقل في تراثنا إلى خلق مجتمع عقلاني؟ ذلك أن مجتمعاتنا العربية، خصوصا في أيامنا التي نعيش، تمارس اللاعقلانية في كل مجالات الحياة: في العائلة والسياسة والاقتصاد والاجتماع والدين.

يجيب البعض بأن اهتمام تراثنا بالعقل تركز على العقل النظري التجريدي، وهو أمر مارسته كل مدارس علم الكلام في التاريخ العربي الإسلامي. وكان ذلك الاهتمام الشديد بالعقل النظري التأملي من أجل تثبيت اليقين الديني عند الناس، لكنه أدى أيضا إلى إهمال العقل العملي أو عقل الفعل الذي يهتم بالجوانب الحياتية الدنيوية، وذلك من خلال اهتمامه بالارتقاء بالعلوم وببناء حركة تكنولوجية وصناعية.

أما البعض الآخر، فيشير إلى انشغال العرب في القرون الحديثة من تاريخهم بمسألة الصراع المصطنع بين المحافظة على هويتهم وشخصيتهم من خلال التركيز على تراثهم الفكري وإعلاء السلفي التقليدي منه، وبين خوفهم من التغريب والاندماج في حضارة الغرب. وقد نتج عن وجود ذلك الصراع تجميد محاولات بناء العقلانية، بشقيها النظري والعملي الفاعل، إلى حين انتهاء فترة ذلك الاستقطاب الحاد المفجع بين الأصالة والمعاصرة.

إذن من الواضح أن تكوين الإنسان العربي العقلاني في أرض العرب وترسيخ العقلانية في ثقافتنا سيحتاج إلى حسم أمرين. الأمر الأول هو تكميل العقل النظري التأملي المنتشر في كل تراثنا ببناء العقل العملي الفاعل الذي يهتم بالحياة المحسوسة، بالطبيعة والاجتماع، ليدخل العرب في عصر إبداع المعرفة والتكنولوجيا، وما ينتج عنهما من اقتصاد إنتاجي صناعي وزراعي.

أما الأمر الثاني، فهو حسم موضوع الأصالة والمعاصرة. فهناك مكان لكليهما، بل كلاهما ضروريان لإحداث النهضة العقلانية المطلوبة.

لكننا هنا نتكلم عن أهمية التراث الذي خضع للمراجعة والنقد والتمحيص والتجاوز إلى متطلبات الحاضر، كما نتكلم عن الانخراط في المعاصرة بشكل إبداعي ندي ذاتي غير ممارس للتقليد الفج الأعمى، ولا خاضع لمشاعر الدونية والعجز أمام الآخر.

في ظل هذين التوجهين، في الآن نفسه، وفي وجود الحرية والإرادة العامة لممارسة متطلبات التوجهين، سيوجد تفاعل ذهني اجتماعي، فيه الكثير من الجرأة والإبداع والمغامرة، ما سيؤدي إلى بناء الإنسان العقلاني المتزن، المطلوب تواجده بكل إلحاح. 

هذه خطوة واحدة من بين خطوات كثيرة ستحتاج أمتنا القيام بها، وذلك بعد أن أثبتت فواجع السنوات الأخيرة بأن الترقيع والاهتمام بالسطح ما عادا يجديان. وهي خطوة تتحدى إرادة وإبداع الجميع وعلى الأخص في حقول التربية والتعليم والعلوم الاجتماعية ومنابر الإعلام الجماهيري، بما فيها المساجد والكنائس.

الخليج الإماراتية

0
التعليقات (0)