قضايا وآراء

حرائق فلسطين المحتلة وأمتنا بين التيه والضياع

محمد حسني عودة
1300x600
1300x600
في خضم الأحداث التي نعيش توازيا مع أزمات فكرية طاحنة تعصف بالأمة العربية والإسلامية من كل ناحية وصوب، فلا بد للمرء أن يتوقف مرجعا بصره فيما نشهد مرات عديدة ليأبى البصر إلا أن يعود حسيرا ومتحسرا وهو يرى التيه الذي نعيش، في الوقت الذي نشهد فيه ضياع أثمن ما نملك وما كرّمنا به خالقنا. تذكرت مع هذا التبصر والتفكر عنوان كتاب "بين الرشاد والتيه" للمفكر والفيلسوف الإسلامي الجزائري مالك بن نبي رحمه الله، وقد ضم هذا الكتاب مجموعة من المقالات جُمعت صيف عام 1972. لم يساورني التفكير كثيرا في تراشق الكتاب والناشطين والمعلقين في فضاء الشبكات الجتماعية فيما يخص الحرائق التي تحدث في فلسطين المحتلة إلا لأتساءل: هل نحن بحاجة لأن نكتب كتابا أو مقالا نتدارس فيه ما إذا كانت أمتنا ليست بين التيه والرشاد، بل بين التيه والضياع؟
 
 ومما لا يفارقني البوح به، فقد تأملت الكلمات التالية للأستاذ بن نبي رحمه الله في ذلك الكتاب وفي فصله عن مشكلات الحضارة: "وقد تتغير خريطة توزيع الملكية في الوطن، وقد يسند إلى أبناء الوطن وظائف كان المستعمرون يشغلونها، وقد تستبدل بالحروف اللاتينية حروف عربية على واجهات ولافتات الحوانيت، إلا أن التغييرات هذه جميعها تصبح مجرد سحر للأبصار ولا يستقر أمرها إذا لم يتغير الإنسان نفسه". كتبها فيما جمع له في 1972، واليوم وبعد مضي أكثر من أربعة عقود من الزمن، هل تغير حال الإنسان في الوطن العربي للأفضل، وهل تركنا المستعمر أبدا، وهل فعلا واجهات ولافتات حوانيتنا قد دخلت العربية في صلبها، بل هل دخل الإيمان في قلوبنا حقا؟ بالطبع ليس هذا كله هو الواقع الذي نشهد!!
 
وهل ما نشهده على فضاء الشبكات الاجتماعية فيما يخص تعليل الحرائق في فلسطين المحتلة إلا تيها وضياعا في التحليل يمنة ويسرة بين فريقين؛ كل يجيد في نظره تحليل الأمور لصالح ما يتبع هواه، سواء كان ذلك الهوى فكريا في ذاته أو ربما نفاقيا لأرباب يُتقرب إليهم زلفا؟
 
وعندما نتحدث عن التيه والضياع، فلا بد لنا أن نُقعِّد للفرق بينهما حتى لا تلتبس علينا الأمور في تحليلنا لما نشهده. وهل يمكن الحديث عن التيه وننسى تيه بني إسرائيل أربعين عاما بعد رفضهم دخول الأرض المقدسة بأمر من نبي الله موسى عليه السلام؟ لقد تكلم المفسرون كثيرا في أمر التيه هذا، ومما أعجبني كلمات للشيخ الشعراوي رحمه الله، "والتيه هو كما نقول: فلان تاه أي سار على غير هدى ولا يعرف لنفسه مدخلا ولا مخرجا، والواحد عندما يدخل في مجال متشعب المسالك ومتعرج الطرقات، فهو لا يعرف كيفية الخروج منه، هذا هو التيه". لقد تاه هؤلاء القوم تيها مكانيا في مساحة صغيرة، لا تقارن بالمساحة التي تعيش فيها الأمة العربية الإسلامية. 
 
ولكن تيه الأمة الذي نشهد ليس مكانيا على اتساع الرقعة المكانية فحسب، بل هو تيه استراتيجي، وتيه تربوي، وتيه فكري، وتيه تنظيمي. وكل هذا التيه يتعزز بتسلط الرويبضات في كل بعد واتجاه. ومن أدق الكلمات وصفا لهذا التيه ما وجدته في قاموس المعاني ما يوضح المشهد الذي نعيش من حيث "ارْتِبَاك، انْدِثارٌ، الْتِبَاس، تَرَدُّدٌ، تَلاَشٍ، تَوَارٍ، حَيْرَة، فَسَاد، كَذِب". وربما لو فهمنا أضداد كلمة الضياع لاستأنسنا بما ينبغي ألا نضيعه أبدا مثل الاستقرار والاهتداء والبروز والبقاء والوجود واللقيا والتصميم والهدى والوضوح، وهذا مما أخذته أيضا من قاموس المعاني ذاته. فهل بعد هذا الفهم نقبل بضياع كرامة الإنسان والحقوق والجهد والوقت والمال بل هل نضيّع "حصاد الفلاح"؟
 
وهل أبلغ من أن تتعاقب ثلاثة أحداث معاصرة متتالية تخص فلسطين لم تستثمرها الأمة العربية والإسلامية بأدنى شكل يمكن قبوله؟ فقرار اليونسكو أن الأقصى تراث إسلامي خالص، ومنع الأذان في الأراضي المحتلة، وأخيرا الحرائق في الجزء الشمالي منها، والتي قد خاض في شأنها كثير من الكتاب والمعلقين في الشبكات الاجتماعية، وكانت في شدتها خوضا والحرائق مازالت تستعر. وإن مما أذهلني وضوح مشهد قطبين متنافرين في الشحنة الفكرية، وربما متساويين في القوة لدرجة تتيقن بعدها أن التيه هو العودة لنقطة الصفر كما تاه بنو إسرائيل أربعين عاما، فكلما كانوا يستيقظون من نقطة الصفر في بحثهم عن طريقهم كانوا يعودون إلى تلك النقطة في اليوم الذي يلي من بعد سباتهم.
 
فهناك فريق من قعّد القواعد كون الحرائق عقاب رباني حيث الصهاينة في طريقهم لتقنين منع رفع الأذان في مساجد فلسطين المحتلة، ونقول هنا هل ما فعله الصهاينة المحتلون بمقدساتنا وشعائرنا جديد؟ فهل أبلغ ما جرى ويجري للأقصى وفي القدس الشريف؟ ألم يسعوا في خراب المساجد وقد حولوا العديد منها إلى خمارات وكنس. ويجب أن نتذكر، بل يجب ألا ننسى أبدا مسجد المالحة في القدس الذي غدا مرتعا لإحياء السهرات الليلية؛ وفي عكا وقضائها حولوا مسجد قرية الزيب إلى مخزن للأدوات الزراعية؛ وفي صفد وقضائها حولوا مسجد عين الزيتون إلى حظيرة للأبقار، والمسجد الأحمر إلى ملهى ليلي، والمسجد اليونسي إلى معرض تماثيل وصور، ومسجد القلعة إلى مقر لمكاتب البلدية، ومسجد الخالصة إلى متحف بلدي؛ وفي حيفا وقضائها أصبح مسجد عين حوض مطعما وخمارة، والمسجد القديم في قيساريا مكتبا لمهندسي شركة التطوير، والمسجد الجديد فيها والمبني منذ عهد الخليفة عبد الملك بن مروان مطعما وخمارة؛ وفي يافا تحول مسجد السكسك إلى مقهى للعب القمار وبيع الخمور؛ وفي عسقلان أصبح جزء من مسجد مجدل عسقلان متحفا والجزء الأخر مطعما وخمارة. (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن مَّنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَن يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَى فِي خَرَابِهَا أُولَئِكَ مَا كَانَ لَهُمْ أَن يَدْخُلُوهَا إِلَّا خَائِفِينَ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ 114 (البقره).
 
ولكننا نقول يا قوم: لا تتعجلوا النتائج ولا تصدروا الأحكام القطعية فلا تملكون علم الغيب؛ ثم إنه كم من دسائس دست وتدس وخطط يخطط لها لأهداف لا نعلم كنهها، وقد تعلمنا من التاريخ محاولين التدبر في قراءة دروسه عبث ودهاء المحتل وسذاجة الفكر الذي يملكه البعض في إصدار أحكامه.
 
وهناك من أخذوا يصدرون أحكاما جزافا: كيف تكون تلك الحرائق عقابا ربانيا والمحتلون الصهاينة يعيثون فسادا في فلسطين وأهلها منذ احتلالها؟ وعللوا لماذا لم تنزل الطير الأبابيل منذ عقود عقابا على جرائمهم؟ بل زاد التعبير في شدته إيقاعا الوصم بالقول بالدعاء وعدم العمل وانتظار الفرج. وهنا نقول إن لله عز وجل سننه، والدعاء والعمل متلازمان ويجب ألا ننسى أن هناك من أزهقت أرواحهم ومن ندعوا الله لهم أن يتقبلهم عنده من الشهداء والأبرار. وعلى سبيل المثال فقط لا الحصر أبدا: ألا نتذكر هديل الهشلمون، صوت الحمام، تلك الطاهرة العفيفة من مدينة خليل الرحمن، تلك المجاهدة في سبيل الله، تذهب وتعود من وإلى بيتها طالبة للعلم فقتلت برصاصات الصهاينة غدرا وخسة وجبنا؟ ألم تؤسس هديل وإخوانها وأخواتها المرابطون في الأرض المباركة لمدرسة جيل شاب تركوا وراءهم متاع الدنيا وزينتها، ولم يكترثوا بجيل الفلول، ولا جيش الضرا، ولا معسكر النعام في سبات ريشه؟
 
وعلى النقيض وفي الاتجاه المضاد، شاهدت مقطعا مصورا لشيخ وعلى قناة عربية يصف المحتل بالعدو المهادن والمروض، وأنه لا هو ولا نتنياهو بالعدو الأول، بل لم يستخدم كلمة فلسطين المحتلة البتة واستخدم اسم دولة الاحتلال، وطالب بعدم الشماتة بهم وإطفاء الحرائق انطلاقا من معاهدات السلام الموقعة وليس من المحافظة على الإنسان الكون وبيئته.
 
 أليس هذا مشهدا مرتبكا في الطرف النقيض المعاكس في شحنته للطرف أو الفريق الأول؟ وهنا نتساءل: أين المحصلة؟ ألسنا نعود إلى نقطة الصفر؟
 
وللأسف والألم الذي يعتصر قلوبنا نرى التيه ليس على اتساع الرقعة المكانية التي نعيش فيها فحسب، بل في الأعداد الغفيرة من خريجي الجامعات ذوي الدرجات العلمية العالية بمختلف خلفياتهم الثقافية والعلمية بين هوى فكري وفساد قيمي ليدعنا نتساءل مرة أخرى: إذا كان هؤلاء صفوة القوم في تعلمهم فكيف لجيل يعلمونه وكيف لجيل يؤهلونه يستطيع التميز والإبداع في نقلة قيادية إستراتيجية تكون مصداقا لخطاب الله لمحمد عليه الصلاة والسلام في وظيفته لإخراج الناس من الظلمات إلى النور.
1
التعليقات (1)
نافع الوالد عبدالله
الخميس، 27-01-2022 11:58 م
مخيف،ومربك ، مجرد تفكير في العبور الأستراتجيات العرب وواقعهم الحزين