قضايا وآراء

لماذا لا تنخرط داعش في مقاومة الاحتلال الصهيوني؟

أنس السبطي
1300x600
1300x600
حظيت عملية القدس الأخيرة بمتابعة واسعة فاقت عمليات سابقة في انتفاضة القدس، ليس فقط كونها من بين العمليات الأكثر إيلاما للطرف الصهيوني، إن على مستوى الخسائر في الأرواح أو حتى على المستوى المعنوي بتكريسها لصورة الجندي المرتعد العاجز عن حماية نفسه، فبالأحرى أن يحمي غيره من مواطني كيانه، غير أن الذي استرعى الاهتمام أكثر هو ما قيل عن هوية منفذها والمرجعية التي يمثلها بعد ادعاءات نتانياهو بوقوف داعش وراء هذه العملية..

ورغم الأغراض الدعائية المحتملة لمثل هذا التصريح الرامية إلى استحضار البعبع الداعشي في الواقع الفلسطيني، سعيا من الكيان لتشويه صورة المقاومة والاستفادة من ورقة الإرهاب كعادته، ورغم أن الوقائع لا تسعف من يقول بارتباط الشهيد فادي القنبر بداعش أو بأي تنظيم آخر، إلا أن البعض تفاعل مع كلام نتنياهو بشكل مبالغ فيه، إما من منطلق التخوف من دخول داعش في معادلة الصراع وخلطها للأوراق وإرباكها للمشهد الفلسطيني المتخم بالجراح أصلا، أو من منطلق الحماس لأي استهداف لقوات الاحتلال مهما كانت الجهة التي توجهه لها.

على كل يبقى دخول داعش إلى الحلبة الفلسطينية والمواجهة مع الكيان الصهيوني افتراضا قابلا للنقاش، بالنظر إلى قوتها وتمددها الجغرافي ونشاطها في الجوار الفلسطيني، وبالنظر إلى ضمها عناصر فلسطينية في صفوفها، كل هذا مع ما نعلمه من حالة التداخل الكبير في المنطقة ومساحة الاشتباك الواسعة بين جل الدول الإقليمية الكبرى؛ الأمر الذي يجعل من تلافي الكيان الصهيوني لتبعات هذه الأوضاع غير المستقرة مهمة ليست باليسيرة.

تنبغي الإشارة إلى أننا حين الحديث عن داعش وإمكانية انخراطها في المواجهات مع الاحتلال، فإننا نجتر نقاشا قديما من منتصف العقد الماضي مع مجموعات تحمل نفس مرجعية تنظيم الدولة، حيث شهد المشهد الفلسطيني في تلك الفترة بداية حضور للسلفية الجهادية، وإن ظل محتشما، لكنه استفاد وقتها من الانفلات الأمني، تحديدا في غزة، لتعزيز نفوذه. وقتها قيل إن صعود هذا التيار مسألة وقت، وأننا على موعد مع تحول في الخريطة التنظيمية الفلسطينية قد يجعل المقاومة تصطبغ باللون "الجهادي" أسوة بما جرى في العراق وأفغانستان والصومال، مما قد يتجاوز حماس وفتح وباقي الفصائل.

لكن شيئا من ذلك لم يقع، فقد ظلت تلك المجموعات محدودة، ولم تتمكن من اختراق البنية التنظيمية التقليدية، كما أن فعلها المقاوم كان شبه منعدم. في المقابل، غاصت في صراعات أزّمت الوضع الفلسطيني أكثر، وحتى بعض فصائل المقاومة لم تسلم من أذاها. وفي الوقت الذي كانت غزة واقعة تحت النيران الصهيونية الكثيفة وتخوض حروبا بالغة الدموية، لم يظهر لتلك التنظيمات أثرا، غير أنها لم تكن تتذكر عدوا اسمه "إسرائيل" إلا في أوقات الهدنة، بهدف كسر إجماع الفصائل ومحاولة إحراجها ببضع قذائف في اتجاه الكيان.

هذا ماضي الحركات المحسوبة على السلفية الجهادية التي فتحت جبهات عديدة في كثير من الدول، لكنها كانت تستثني الكيان الصهيوني في كل مرة. ويمكن اعتبار داعش امتدادا لها، ليس فقط في المرجعية، بل حتى في الممارسة، مع فارق أن القاعدة والمجموعات المرتبطة بها أو المتعاطفة معها كانت أكثر جرأة من داعش في استهدافها لقوى عظمى مهما كانت تبعات ذلك عليها، بخلاف تنظيم الدولة الذي اقتصرت وحشيته على النيل من المكونات الداخلية للأمة.

أما على المستوى الخارجي، وحتى إن صحت نسبة جل العمليات إليه، فالملاحظ أنه تجنب استهداف الدول التي قد تقلب الطاولة عليه وقد تؤثر في سيطرته على الأرض، وهو ما يدعم مقاربته البراغماتية الهادفة إلى الحفاظ على التوازنات القائمة. وسواء كان هذا مقصودا من طرف جهات توجهه أينما تريد أو كانت نابعة من قناعة ذاتية، فالأمر لا يختلف هنا كثيرا.

من هذا المنطلق، فإنه لا مصلحة لداعش في فتح جبهة ستختلف كليا عن باقي الجبهات الأخرى، فالعالم الغربي قد يغض الطرف عن الحرائق في أي مكان إلا في دولته المدللة، وهذا ما يدركه التنظيم جيدا ويتفادى الوقوع في شركه، حيث ظلت إسرائيل في مأمن منه حتى في الجولان القريبة من أماكن نفوذه.

أضف إلى ذلك وضعه الحالي والمعارك الكبرى التي تستنزفه، والتي لا تسمح له بالانخراط في مقاومة الاحتلال الصهيوني حتى لو أراد، فإذا لم يفكر في فلسطين وهو في عز قوته فكيف سيفكر فيها اليوم وهو في ضعف وانحسار؟

غير أن هناك من يزعم بأن داعش لم تغيب القضية الفلسطينية من أدبياتها، وأن ظروف التنظيم هي من تحكم خططه، وأن انشغالها بقضايا أخرى لا ينفي أن فلسطين على رأس أولوياته. 

قد يكون هذا الكلام صحيحا، لكن ليس في واقعنا العربي وليس مع داعش وأخواتها، لأننا سبق أن سمعنا هذا المنطق من غيرها، من أنظمة وتنظيمات من مختلف المشارب ظلت تكثر من الاشتراطات قبل الانخراط في الصراع مع الصهاينة ولم تتقدم خطوة في هذا الاتجاه، بل جلها انحرف عن المسار بسبب غياب رؤى واضحة وإرادة حقيقية، والغريب أنهم لا يزالون يبيعوننا الشعارات التحررية إلى يومنا هذا.

وفي حالة داعش، الأمر أشد تعقيدا؛ لأن المدرسة التي تنتمي إليها تولي الأولوية للعامل الذاتي قبل غيره، وأن النصر على العدو يأتي بعد الانتصار على المعاصي وتطهير المجتمع من البدع، وكل هذا يتم بأساليب عنيفة سواء كانت لفظية أو مادية، مما يغرق التنظيمات المنتسبة إليها في دوامة لا تخرج منها، وتدفع الأمة إلى صراعات عنيفة تشتت ولا تجمع، وحتى لو قررت استهداف عدو خارجي سرعان ما تشدها أوضاع المجتمع الداخلية وتنسيها معركتها الرئيسية.

وهكذا على فلسطين أن تبقى في لائحة الانتظار ريثما تنتهي داعش من غزواتها التي لا يبدو أنها وشيكة لا في الأمد القريب أو البعيد!
التعليقات (0)