قضايا وآراء

أزمة تشكيل الحكومة وتأثيراتها على البيت الداخلي للعدالة والتنمية

أنس السبطي
1300x600
1300x600
منذ أحداث 20 شباط/ فبراير إلى الآن؛ لم يتعرض حزب أو تنظيم سياسي في المغرب لمستوى الضغط الذي تعرض له حزب العدالة والتنمية، كونه ظل طيلة السنوات السابقة فاعلا أساسيا في فترة استثنائية طبعت الواقع السياسي والمجتمعي في البلاد، متصدرا للمشهد الحكومي ومدشنا بذلك مرحلة جديدة من تاريخه بشقه مسارا مختلفا عن مسار حلفائه السابقين في المعارضة الداخلية، وحتى بالنسبة لشركاء مرجعيته خارج الحدود الذين اختاروا الشارع فيصلا في علاقتهم بسلطات بلادهم، فيما اختار هو طريق إرضاء النظام الحاكم وتدعيم اختياراته، ليجد نفسه بعد ذلك على رأس حكومته بعد أن كان منبوذا وسيف حله مسلطا على رقبته في أي وقت.

جدير بالذكر أن اختيار هذا النهج لم يكن يسيرا، فقد تخللته في البداية هزة داخلية سرعان ما تم احتواؤها، حين قرر الحزب عدم المشاركة في الحراك الفبرايري، غير أن قيادة العدالة والتنمية تأقلمت مع وضعها الجديد وكذلك قواعدها، لتستتب الأمور تماما بعد ذلك رغم تداعيات الواقع الاحتجاجي وما تبعه من خطوات نهجها النظام المغربي من أجل مواجهته؛ والتي زكاها الحزب واستنفر كل إمكانياته للتسويق لها، بما في ذلك مشروع الدستور الجديد، دون أن يطرح كل ذلك أي مشكل في صفوفه. والأمر ذاته استمر في تجربته الحكومية الأولى بأدائه الذي أثار سخطا شعبيا كبيرا بسبب القرارات غير المسبوقة التي مررها، وإلى حدود مشاورات تشكيل الحكومة التي قادها بنكيران بدا أن الحزب على قلب رجل واحد، كما يقال.

لكن ما إن تم إعفاء زعيمه وتعيين سعد الدين العثماني بدلا عنه؛ حتى شهدنا سجالا واسعا وخلافات غير مألوفة بين بعض قياداته وشبابه، ناجمة عن الخطوات التي أقدم عليها رئيس الحكومة الجديد والتي أثرت في صورة الحزب وفي تماسكه المعهود، الشيء الذي استغله البعض للتبشير بقرب تفكك الحزب وانفراط عقده.

عموما فإن التكهن بهذا المصير مبكر، وأي حديث في الموضوع ينبغي أن يتجنب التسرع في إطلاق الأحكام حتى يتسنى تشخيص الحالة بموضوعية وتجرد.

صحيح أن تاريخ الممارسة الحزبية في البلاد يدفع باتجاه مثل هذا التقدير، فما من حزب اقترب من السلطة ورضخ لإملاءاتها إلا وتآكلت قواعده أو تشتتت، فهشاشة الأحزاب الحالية لم تنشأ من فراغ، وهي ليست إلا نتيجة الرضوخ المطلق للمخزن وتسليم رقبتها له، والقبول بهندسته للمشهد الحزبي في غياب أية مقاومة تذكر من جهتها.

على أن هذا الأمر لا يتم بين ليلة وضحاها، فكما حافظ حزب الاستقلال على جماهيريته لعدة عقود حتى ضعف بالتدريج، وكذلك الاتحاد الاشتراكي الذي لزمه أكثر من ولايتين حكوميتين ومنافس قوي قبل أن يسقط صريع تجاذبات تياراته والانشقاقات التي لا تنته والتي أنهكت جسده أيما إنهاك، فإن شعبية حزب العدالة والتنمية لن تتبخر دفعة واحدة، وهو الذي لم يعمر غير خمس سنوات في أول ولاية حكومية، كما لا يتوقع أن يحدث أي انشقاق عنه في الأفق المنظور بسبب صعوبة تقسيم الحزب إلى تيارات. فخصوصية الحركة الإسلامية المغربية التي تختلف بها عن نظيراتها في المنطقة أنها ذات صبغة تعددية بسبب عجزها عن التوحد في إطار جامع، وهو ما أدى في النتيجة إلى أن كل تيار أسس تنظيمه الخاص به؛ والذي يصعب أن تجد داخله فروقا جوهرية بين مختلف مكوناته، هذا إذا افترضنا أن هناك انشقاقات محتملة مبنية على تمايز في الرؤى والتصورات داخل الحزب، وهو ما لا تظهر بوادره لحد الساعة.

أما الاحتمال الثاني فهو أن يدفع إقصاء بعض القيادات من مسؤوليات وزارية أو حزبية إلى التمرد والانشقاق، غير أن الملاحظ أن قيادات الصف الأول تبارك خطوات هذه الحكومة، وجلها ممثل فيها، الشيء الذي يجعل هذا الاحتمال مستبعد هو الآخر.

وهناك احتمال ثالث؛ وهو أن يترجم غضب بعض المجموعات الشبابية إلى الانسحاب من الحزب، إما باتجاه تشكيل إطار حزبي جديد، أو الالتحاق بحزب من الأحزاب التي تؤسس للمشهد السياسي في البلاد، وهذا إن حدث سيظل محدودا، خصوصا إذا استحضرنا قدرة الحزب على احتواء الأزمات الداخلية، لا سيما أنه لم يخرج عن أدبياته أو عن أساليبه المعتادة في تدبير هذه المرحلة.

في المحصلة سيكون بإمكان العدالة والتنمية تجاوز أزمته الراهنة وإعادة الهدوء لصفه الداخلي، غير أن هذا لا يعني أن الحزب بات محصنا من تبعاتها مستقبلا. فالعدالة والتنمية سيجد صعوبة في تدبير مرحلة ما بعد بنكيران في رئاسة الحكومة، سواء احتفظ الرجل بمنصبه في الحزب أو تمت إزاحته منه. في الحالة الأولى سيكون العدالة والتنمية برأسين، وقد يخلق هذا الوضع متاعب عديدة سيكون لها ما بعدها. أما إن تم إبعاده فسيعاني الحزب من غياب شخصية مركزية بكاريزما طاغية والتي يصعب تعوضيها في هذه الظرفية الحرجة، وفي ظل الأفخاخ الكثيرة التي توضع للحزب من طرف المخزن وملحقاته الحزبية.

كل هذه الإكراهات التي تنتظر الحزب وتفرض عليه التعامل معها تضاف إلى إكراهات أصعب متعلقة بالتحولات المكثفة التي طرأت عليه، والتي بدأت في فترة معارضته البرلمانية وترسخت في ولايته الحكومية، حيث جعلت بنية الحزب تتغير وتتشكل في اتجاهات غير ما كانت عليه في السابق، حتى إنه بات أقرب لدائرة الأحزاب المخزنية منه لدائرة الحركة الإسلامية والتنظيمات المناضلة، وهو ما لا يخدم مصلحته ويخصم من قوته ويجعله أقل مناعة.

ننوه إلى أن ثمة عوامل خارجية ستلعب هي الأخرى دورها في توجيه الحزب، منها الواقع السياسي والاجتماعي العام، فإن ظل رتيبا فسيكون ذلك في صالح السلطة التي ستستمر في إرباك العدالة والتنمية وتأزيمها، وإن أسفر الاحتقان المجتمعي عن موجة احتجاجية ثانية فسيعتبر ذلك بمثابة طوق نجاة للحزب سيحاول اغتنامه ليحسن به موقعه التفاوضي مع المخزن دون أن ينخرط في أي فعل نضالي قوي؛ لأن مشروعه الإصلاحي وارتباطات قيادته وطبيعة قواعده كلها عوائق تحول بينه وبين أية مراجعة جدية لخطه الفكري واصطفافاته السياسية.

المؤكد أن حزب العدالة والتنمية الآن في وضع لا يحسد عليه، فكل رهاناته اصطدمت بإصرار الاستبداد المخزني على تقليم أظافره والحد من طموحاته بعد استغلاله أبشع استغلال، وهو وإن أمكنه تجنب الزوبعة الحالية إلا أنه سيكون على موعد مع امتحانات عسيرة ستضعفه أكثر فأكثر، إن ظل وفيا لنهجه، حتى تفقده القدرة على التماسك الذاتي ليأتي اليوم الذي يلتحق فيه بمن سبقه من الأحزاب التي حطمها النظام المغربي تحطيما.
التعليقات (0)