قضايا وآراء

النظام الجديد: من حقبة أتاتورك إلى حقبة أردوغان

جهاد صقر
1300x600
1300x600
لم يجانب زعيم حزب الشعب الجمهوري المعارض -أكبر أحزاب المعارضة في تركيا- كمال قليجدار أوغلو الصواب حينما وصف الاستفتاء على التعديلات الدستورية التركية بأنه “تصويت على مصير تركيا”، وإن أغفل الرجل الأبعاد الدولية لذلك التصويت الذي اجتاح القارة الأوروبية وصولاً إلى الأمم المتحدة.

وبقليل من التمحيص يمكن إدراك أن الأتراك في استفتاء بلادهم قد صوتوا -بقصد أو بغير قصد- على تأسيس نظام دولي جديد في نصف العالم الشرقي على الأقل. ما لم يقله معارضو التعديلات الدستورية  -أمثال كمال قليجدار- أن الشعب التركي -الذي تربى على مبادئ مؤسس تركيا الحديثة مصطفى كمال أتاتورك- كان بتصويته ب"نعم" لصالح تلك التعديلات كمن يصدر شهادة الوفاة لأتاتورك نفسه، لتُطوى بالتالي حقبة تاريخية استمرت قرنا كاملا؛ تقزمت خلالها المناطق الواقعة تحت نفوذ العثمانيين من فضاء القوة العالمية ذات السيادة الحقيقية إلى دويلات متشرذمة منقوصة السيادة عديمة التأثير، ومن القوة السياسية الهائلة التي تفرض قواعد السياسة دولياً إلى فسيفساء الدمى المتحركة التي تحركها أصابع الخارج، ومن بين تلك الدمى أتاتورك نفسه كما يذكر المؤرخون.

ومثلما أسست تلك الحقبة لنظام دولي جديد بعد الحرب العالمية الأولى، تحوّل خلاله الشرق من متبوع إلى تابع على خارطة السياسة العالمية، تؤسس الحقبة الجديدة التي يسميها البعض "حقبة إردوغان" لنظام جديد قد يقلب معادلة ما بعد الحرب العالمية الآولى، ذلك أن الحقبة الأولى رسمتها دول استعمارية، فيما الثانية يرسمها الشعب التركي بإرادته الذاتية، غير عابئ بالحساسية الشديدة للأنظمة الاستعمارية -المتشدقة بالشعارات الديمقراطية- إزاء تقرير الشعوب مصائرها بنفسها، ومن هنا لم يكن مستغرباً تبني العالم "الحر" لمواقف المعارضة خلال استفتاء تركيا الدستوري، ناهيك عن المزاودة عليها -سياسياً وإعلامياً- بما استفز الأتراك المؤيدين والمعارضين على حد سواء.

لذا لا عجب أن تختار تركيا -في ظل هذه التحديات- الانتقال من وضعية القوة الصاعدة اقتصادياً وسياسياً وعسكرياً على المستوى الإقليمي، إلى وضعية القوة الصاعدة المؤثرة على المستوى العالمي، وذلك تبعا لعوامل متعلقة بالتعديلات الدستورية نفسها، تحررها من معوقات داخلية وخارجية عديدة ليصبح القرار السياسي آكثر استقلالية، وعوامل أخرى متعلقة بوزن تركيا الجيوسياسي والديمغرافي والثقافي على طول طريق الحرير الممتد من منغوليا وتركستان في عمق النفوذ الروسي الصيني شرقا، إلى البلقان وبلغاريا في العمق الأوروبي غربا، مرورا بخاصرة العالم العربي في عمق النفوذ الغربي والفارسي الواقع بينهما، حيث يستلهم الكثيرون نموذج حكم تركي رشيد -في العقد الأخير- مقارنة بنماذج حكم فاسدة تتولى مقاليد الحكم على قاعدة تقسيمات سايكس-بيكو في الشرق العربي، أو واقع ما بعد سقوط الاتحاد السوفياتي في آسيا الوسطى ذات الأغلبية التركية.

ترى ما أبرز ملامح الأيام الأولى لتركيا الجديدة؟

على المستوى الداخلي يتوقع أن يعمل الاستقرار السياسي على تحفيز النمو الاقتصادي والاستثماري، مع تفعيل أكبر لدور الشباب في عجلة التنمية الاقتصادية والسياسية لمجتمع فتي يلامس معدل نموه ال2.5 بالمئة مقابل اقل من 2 بالمئة للاتحاد الأوروبي في الغرب، وأقل من ذلك بالنسبة لجيران تركيا في الجنوب والشرق، إذ تخفض التعديلات الدستورية سن ترشح الشباب لعضوية البرلمان من 25 إلى 18عاما، وهو أمر ذو مغزى في بلد تعززت طبقته الوسطى وانحسر فيه الفقر لما دون 2 في المئة مع نجاح إصلاحاته الاقتصادية بوصفة داخلية، مقابل فشلها في غيره حيثما طُبقت الوصفة الدولية بمخرجات أقلها اضمحلال الطبقة الوسطى  وارتفاع مستويات  التضخم وخط الفقر والدين العام رغم بيع تلك الدولة أصولها وخدماتها لغيرها.

أما علاقة تركيا بالخارج، فيتصدرها ملف مراجعة العلاقات مع الاتحاد الأوروبي والتي عانت الكثير من الانتكاسات فيما مضى، وهنا يبدو تأثير حسم التعديلات الدستورية شعبيا ب"نعم" لا يمكن تجاهله، ذلك أن استناد القرار السياسي التركي لإرادة شعبية لم تكتف بحمل الحزب الحاكم للسلطة منذ عقد ونصف من الزمان، بل ومنحته الفوز في كل استحقاق انتخابي ودستوري منذ ذلك الحين، بل وإسقاط الانقلاب العسكري المدعوم غربيا -ضده- قبل التصويت الشعبي لصالحه ب"نعم"، وتقويض التعديلات للدستور الذي فُرضه -بالقوة- الانقلاب العسكري الذي دعمه الغرب عام 1980، كل ذلك من شأنه أن يمنح الخارجية التركية هامش مناورة أوسع مدعوم بقوة أكبر على صعيد إدارة التفاوض ورسم الخطوط والتأثير خارج حدود الدولة التركية، يقابل ذلك تقلص مساحة التأثير الخارجي في الشأن الداخلي التركي، بحيث لا يتجاوز النشاط الاستخباري والإعلامي ومواصلة الصغط الاقتصادي ودعم الحركات الانفصالية على الحدود الجنوبية بالمال والسلاح -تحت غطاء محاربة تلك الحركات لإرهاب داعش-، وفي نفس الوقت محاولة تطويق سعي تركيا للتمدد -سياسياً واقتصادياً وثقافياً وعسكرياً- خارج حدودها، وكل هذه المعوقات قليلة اعتاد عليها الشارع التركي، بالمقارنة بحقبة -فيما مضى- كانت فيها مؤسسات الدولة والجيش وقطاعات الاقتصاد والمال والإعلام وغيرها -لنحو قرن- مسرحا لعبث أصابع الخارج بكل أريحية.

قد يجادل البعض في جزئية انتقال تركيا من وضعها كقوة إقليمية إلى وضعها المرتقب كقوة اقتصادية وصناعية وسياسية وعسكرية عالمية بفضل الاستقرار الدستوري الجديد في البلاد على نظام رئاسي مستقر ذي صلاحيات تنفيذية واسعة، لكن البعض يغفل أن عمق تركيا الحقيقي اليوم لم يعد مقتصرا على حدودها السياسية الحالية، بل بات يتمدد شيئاً فشيئاً صوب آسيا الوسطى من جهة، وفي جانب من الحيّز الجغرافي للدولة العثمانية من جهة أخرى،  دون إغفال عضويتها ضمن نادي الدول العشرين الأولى اقتصادياً على مستوى العالم، والقفزات الضخمة التي خطاها التصنيع المدني والعسكري والصادرات التركية في السنوات الأخيرة. ولعل الخيبة الكبيرة -من نتائج الاستفتاء- لدى دول كبرى بمجلس الأمن أو داخل الاتحاد الأوروبي -أو توابعها- ممن دأبت تقليدياً على دعم الدكتاتوريات والانقلابات والثورات المضادة -بما في ذلك الثورة المضادة للربيع العربي اليوم- لها ما يبررها، يقابلها وقوف قطاعات لا بأس بها من شعوب دول الجنوب في إفريقيا وأمريكا اللاتينية وآسيا -بما فيها العالم العربي والإسلامي- موقف التعاطف مع القيادة التركية الحالية، سواء خلال الاستفتاء الأخير أو خلال حملة التحريض الدولية ضد تصويت الشعب التركي  ب"نعم" قبيل الاستفتاء، أو أثناء تصدي الشعب التركي للانقلاب العسكري الأخير، أو خلا الاستحقاقات الانتخابية والبرلمانية المختلفة، حيث تنشط الكثير من وسائل الإعلام في شيطنة الرئيس التركي رجب طيب إردوغان وفريقه، ربما لكونهما نموذجا يحتذى به مقارنة بالنخب السياسية المتسلطة على مقدرات الحكم في غير بلد لا يملك فيه الشعب قراره ناهيك عن لقمة عيشه.

* كاتب ومحلل في شؤون الحريات والاستراتيجيات
Twitter: @j_saqr
0
التعليقات (0)