قضايا وآراء

عن "المحافظين الجدد" من جديد

1300x600
كلما تم الحديث عن وفي طبيعة السياسات الأمريكية، للعقود الثلاثة الأخيرة، إلا ويتم ربطها بهذا الشكل أو ذاك، بـ"فريق" من الساسة والباحثين والأكاديميين (والإعلاميين أيضا) توافقت الأدبيات الرائجة على نعتهم بـ"المحافظين الجدد" إما من باب التمييز، أو إعمالا لمبدأ التميز عما سواهم من "محافظين". 
 
والواقع أنه في الوقت الذي اقترنت فيه نهاية القرن الماضي بصعود "الليبيراليين الجدد" تقوضت على محراب فكرهم معظم مكاسب دولة الرفاه لما بعد الحرب العالمية الثانية، فإن بدايات القرن الحالي تزامنت وانبعاث "تيار" المحافظين الجدد، بدوا للبعض آتين من صلب الأولين، وخالهم البعض الآخر امتدادا لبعض من أطروحاتهم ليس إلا. 
 
وإذا كان من المتعذر تشريح علاقات الارتباط والممانعة بين التيارين والوقوف بدقة عند جوانب التقاطع أو التنابذ فيما بينهما، فإن الثابت حقا والمؤكد أن المحافظين الجدد لم يشرعنوا (في الاقتصاد كما في السياسة) لمنظومتهم إلا بالدعوة "للعودة إلى الأصل"، أي إلى طبيعة الأمور كما بنى لها المؤسسون دونما تدخل لقوى خارجية، حتى وإن كانت الدولة المركزية ذاتها. 
 
وعلى الرغم من تبنيهم المطلق لأفكار وتصورات محددة، فإن مجال المحافظين الجدد بقي محصورا (وإلى حد ما مشتتا) بين الجامعات والمعاهد ومراكز الدراسات، ولم يتسن لهم التواصل، فيما بينهم أو مع العالم الخارجي، إلا عبر الأفكار ونشر الآراء دونما قدرة لديهم كبيرة على ترجمتها إلى واقع حال وإلى سياسات عملية. 
 
وبصرف النظر عن مدى فعلهم وتأثيرهم المباشر في الأجيال أو من بعيد في أصحاب القرار، فإن المؤكد أن انتخاب جورج بوش الإبن إنما كان التدشين الفعلي لبلوغهم السلطة ووضع تصوراتهم على محك الممارسة وتحولهم، فوق كل هذا وذاك، إلى تيار قائم لا يخجل أعضاؤه من الصفة المعطاة لهم، ولا من الأوصاف التي تلصق بهذا العضو أو ذاك، بتاريخه أو بطبيعة انتماءاته السابقة. 
 
ومع أنهم لا يزالوا بكبريات الجامعات ومراكز البحوث والدراسات يهيمنون على أقسامها الحساسة ويزودون المؤسسة الحاكمة بالدراسات والتقارير والتوصيات، فإن غالبيتهم أضحت في محيط صناعة القرار، لا بل في صلبه زمن بوش الإبن (لديك تشيني وولفويتز ورتشارد بيرل وجون أشكروفت وروبرت كاغان ودوغلاس فيت وأبراهام شولسكس وجيمس وولسلي)، ناهيك عن أباطرة الإعلام من أمثال روبيرت ميردوخ وبيل كريسطول ومايكل ليدين وستيفن براين ودانييل بايبس وما سواهم. 
 
إنهم أضحوا من حينه، محتكمين على ثلاثية السلطة والمال والإعلام، على التنفيذي كما على المستوى التشريعي، على عالم الأفكار كما على مستوى ترجمتها إلى برامج وسياسات وتوجهات بالداخل كما بالخارج. لنتوقف في عالم الأفكار عند ليو شتراوس. 
 
لم يكتب ليو شتراوس (وفق ما يقول المختصون بفلسفته) لم يكتب مقالا في السياسة ولا في العلاقات الدولية. هو دارس للفلسفتين الوسيطتين الإسلامية واليهودية (من زاوية نديتهما) وأستاذا لهما إلى حين وفاته بداية سبعينات القرن الماضي. 
 
لكنه مع ذلك يبدو من أولئك الفلاسفة الذين غالبا ما تخضع أفكارهم للتسيس أو للتأويل السياسي فتنطلق، اعتبارا لبريقها، من جيل إلى جيل، وتنتقل من مجال المعرفة المجردة إلى حقول التطبيق العملية في شكلها كما في الجوهر. 
 
ينبني مشروع ليو شتراوس (المؤسس لتيار المحافظين الجدد) على فكرتين بديهيتين لكنهما ذوات آثار وتبعات كبرى: 
 
+ فكرة النخبة العالمة والنزيهة، المالكة لسلطان المعرفة والتواقة لبلوغ السلطة بغرض ضمان النفاذ لمعرفتها و"إشاعة حكمتها لخير البشرية". ولما كانت كذلك فهي حتما صاحبة الرؤية وصاحبة التخطيط في الآن معا. 
 
+ وفكرة مكافحة النسبية الأخلاقية "على اعتبار أن الحقيقة الفلسفية لا تقبل التسويات". وهذه الحقيقة عندما تبلغ مجال السياسة، فإنها " تلهمها مضامينها وقوامها الأخلاقي" الذي تعمل النخبة العالمة على تصريفه، بعدما يكون قد تسنى لها صياغته والتنظير له. 
 
وعلى هذا الأساس، يرى شتراوس، فإن أمريكا بنخبتها العالمة و"سيادة الحقيقة" من بين ظهرانيها، إنما تملك "دعوة أخلاقية كبرى باسم فكرة الحرية...لا يصح التنازل عنها في الداخل ولا مع العالم الخارجي"، بل هي مطالبة "بضرورة التدخل لتحقيق الفكرة المطلقة والرسالة دون تردد" حتى وإن استدعى الأمر تجاوز القانون ودهسه. 
 
يقول شتراوس بهذا الخصوص، إنه " لمن السخافة أن نعيق الانسياب الحر للحكمة بالقوانين...يجب أن يكون حكم الحكماء مطلقا، كما أنه من السخافة وبالقدر ذاته، أن نعيق الانسياب الحر للحكمة عبر أخذنا بعين الاعتبار رغبات غير الحكماء. لهذا يجب ألا يكون للحكماء العاقلين مسؤوليات على رعاياهم غير العاقلين". 
 
لا يقتصر الأمر، عند شتراوس، عند هذا الحد، بل يتعداه إلى تدوين وصايا كبرى أضحت لدى المحافظين الجدد المشعل الذي ينير لهم الطريق: 
 
+ الأولى وتتعلق، في نظرهم، بتلازم القوة والديموقراطية. فإذا كان شتراوس وتلامذته يقدمون مبدأ العدالة على الحرية، ومبدأ الحرية على الديموقراطية، فإنهم بالتالي لا يؤمنون بعدالة لا تكون القوة والسلطة قوامها، بل يذهبوا لحد إدانة العدالة التي لا توظف القوة في تنفيذ محتوياتها. 
 
+ الوصية الثانية وتكمن في تلميح شتراوس إلى التراتبية الاجتماعية وفي التقاطها من لدن تلامذته، ليحولوها إلى مبدأ في الحكم ومسلك في الحكامة: الرئيس أولا ثم حراسه، ثم أصحاب المهن والحرف ثم، في آخر الترتيب، العبيد والدهماء. 
 
لا تنحصر تداعيات هذه الوصية في معاداتها للعامة من الشعب، بل تذهب لحد عدم اكتراثها بالأغلبية التي من المفروض أن توضع "تحت طائلة القانون" وتعمل بتوجيه من خاصة القوم أي من نخبته العالمة. 

+ أما الوصية الثالثة فتكمن فيما أسماه ليو شتراوس ب"الكذبة النبيلة". ومفادها أن الكذبة إياها إنما هي "أداة من أدوات السياسة الحكيمة...المهمة والضرورية مادامت في خدمة المصلحة الوطنية"...وهو ما لا يسري، يعتقد شتراوس، على الزوجة مثلا التي تكذب على زوجها صيانة لأسرتها، لأن المرأة "غير نبيلة"، بالتالي لا يجب مسامحتها بقدر مسامحة "الحكماء المسؤولين". 
 
وأنا أتأمل المحاور الكبرى التي بنى عليها دونالد ترامب سياسته، يبدو لي أن لفكر شتراوس مرتبة فريدة ضمنها. سنعرض للمسألة فيما بعد.