قضايا وآراء

"إسلاموفوبيا صرفة"

1300x600
تسنى لي، بالأسابيع القليلة الماضية، أن أقرأ كتاب عالم الاجتماع والأنتروبولوجيا للفرنسي إيمانويل طود، حول أحداث جريدة شارلي إيبدو لـ 11 كانون الثاني/ يناير 2015 بفرنسا.

ما أثارني في الكتاب حقا ("من هو شارلي: سوسيولوجيا أزمة دينية"، منشورات سوي، 2015) هو توقفه عند ما يسميه "خديعة" المتظاهرين ومحددات "الهستيريا الجماعية" التي ميزت نظرته إلى المظاهرات التي تلت هذه العمليات، في باريس وفي العديد من مدن فرنسا الأخرى. 
 
فلو أخذنا كل متظاهر على حدة، يقول طود، فإننا سنلاحظ أنه "متوازن ولطيف ولا تصدر عنه أقوال مريبة بالمرة"، لكنه عندما يدافع عن الرسوم الكاريكاتيرية التي طالت الرسول محمد (ص)، فإنه يعبر بكل تأكيد عن بعد الإسلاموفوبيا والانطواء الذي يطبع قرارة نفسه. لا بل إنه يجهر به ويعتبره جزءا من حريته وحقه في التعبير. ولذلك ارتأيت أن أتقاسم مع القارئ بعض المفاصل الكبرى لهذا العمل الجيد، الذي ثوى خلفه واحد من ركائز الأنتروبولوجيا في أوروبا. 
 
يتمحور كتاب "من هو شارلي؟" حول خمس نقط أساسية، سنعرض لها  بإيجاز، دونما استفاضة في التفصيل: 

+ النقطة الأولى: تراجع تأثير الكاثوليكية و"انصهار فرنسا" في "عدم الإيمان المعمم". هذا التراجع القوي في الإيمان، طرح مشاكل عميقة على مستوى التوازن النفسي والسياسي للسكان، ترتب عنه فقدان الفرنسيين لكل أشكال المعنى. بالتالي، فضمور الديانة الكاثوليكية قد أفرز "فراغا وجوديا" من بين السكان، ودفعهم إلى اعتبار البعد الديني مسألة جد خاصة، لا يجب استحضارها في السياسات العمومية، أو إفراد مؤسسات تثوي خلف تنظيمها أو تقنينها، فما بالك بمحاسبة الناس على تمثلهم لها. 

+ النقطة الثانية: هذا الضمور خلق حالات من الخوف الشديد لدى السكان، دفعتهم ليبحثوا عن عدو جديد يلصقون به مصادر خوفهم وخشيتهم من الحاضر كما من المستقبل، فكان الإسلام والمسلمون أقصر حائط يمكن ركوب ناصيته لبلوغ ذلك. ولذلك، فإن الشعارات التي رفعت يوم 11 يناير، مدافعة عن حرية التعبير ومناهضة للتطرف الديني (الإسلامي في هذه الحالة)، إنما كان خيطها الناظم: الإسلاموفوبيا. إنهم، يقول طود، يرفعون شعارات تطالب الدولة بأن "تقدس تمثلا مهينا لصورة محمد، عامدين بذلك إلى إقصاء كل مسلمي الجمهورية". 

إن وقفة 11 يناير لا تعبر، بنظر الكاتب، عن المساواة وكونية الحقوق كما يدعي أصحابها، لأن هؤلاء عندما يطالبون بالحق في تشويه صورة "شخصية رمزية" لديانة منتموها أقلية مضطهدة، فإنهم يطالبون بالحق في تأكيد "هيمنتهم وحقهم في البصق على ديانة الضعفاء". 
 
+ النقطة الثالثة: إن الذي "اشتغل" بذهن المتظاهرين في يناير 2015، ليس العلمانية التقليدية كما يبدو الأمر لأول وهلة، ولكن التغيرات التي طرأت على القوى التي كانت تدافع بقوة عن الكنيسة الكاثوليكية من ذي قبل. والشاهد على ذلك بنظره، إنما خروج 4 ملايين فرنسي من أصل 65 مليون للتظاهر، معظمهم أطر ممتازة منتمية للطبقات المتوسطة العليا وبورجوازية اليسار. وهو ما يشي برأيه بمواصفات "جمهورية جديدة" عبارة عن خليط بين العلمانية والقبول باللامساواة، والتي يعبر عنها المتظاهرون ولو جزئيا. 

+ النقطة الرابعة: صحيح، يقول طود، إن فريق شارلي إيبدو غير متدين (حتى وإن كان متشبعا بالثقافة والقيم الكاثوليكية)، وإنه معاد للإسلام مدافع من حيث لا يشعر عن اللامساواة. إلا أن استهدافه للديانة الإسلامية كان من شأنه أن يؤجج شعور الأقليات الدينية الأخرى، لا سيما اليهودية، ويدفع إلى معاداة غير مسبوقة وغير متعمدة للسامية. بالتالي، يتابع الكاتب، فإن الجريدة كادت أيضا أن "تضع اليهود الفرنسيين في خطر جراء استهدافها للمسلمين الفرنسيين". 

+ النقطة الخامسة: الطبقة السياسية (والرئيس الفرنسي هولاند نفسه) قد "انجرت" من حيث لا تدري، إلى أطروحات حزب الجبهة الوطنية، ذي النزوع العنصري الصارخ، بدفاعها عن اللامساواة، وقبولها باضطهاد ديانة سماوية، تعتبر الثانية في فرنسا من حيث عدد المعتنقين. هذا اليسار (وعلى رأسه فرنسوا هولاند) المتشبع بالقيم السلطوية الكاثوليكية (التراتبية، القبول والأبوية) قد سقط هو نفسه في كراهية الأجانب، وبات حاميا ضمنيا وفي العلن يوم التظاهر، بشكل من الأشكال، لحاملي لواء الإسلاموفوبيا والحقد على الآخر.. 

يخلص الكاتب، بمحصلة كل ذلك، إلى أن الطبقة السياسية (بيمينها ووسطها ويسارها) قد باتت حقا وحقيقة، متحررة من توازن الحسابات السياسية، ومن أبعاد المواطنة التي تدفع بها قيم الجمهورية وتكرسها أعراف اللائكية... لا بل إن هذه الطبقة لم تعد تجد أدنى حرج في التخلص من التزاماتها الأخلاقية، والابتعاد عن قيم العيش المشترك التي سنتها الثورة الفرنسية من عقود طويلة مضت...