كتاب عربي 21

أفول الإسلام السياسي!

1300x600
من نافلة القول أن المحنة التي يمرّ بها، لا تيار الإسلام السياسي فحسب، وإنما مجمل الحركية الإسلامية، ليست هي الأولى شدّة وعنفا وعمقا، لكن لعلها تكون هي الأعمق على الإطلاق، ما من شأنه أن يدفع تحولات هذا التيار إلى آماد غير مسبوقة، بيد أن حديث النهايات مستعجل دائما، وبكلمة أخرى هو حديث طائش.

يكفينا التذكير بذلك الحديث الذي نعى القاعدة وأخواتها مع النجاح الأوّليّ للثورتين التونسية والمصرية في الإطاحة ببن عليّ ومبارك، ثم ما لبثت القاعدة أن قدّمت للعالم طيفا واسعا من "أخوات الجهادية العالمية"، تصدّر مشهد تحولات الإقليم العربي حتى وقت قريب، ولم يزل بعض فاعليه رقما مهمّا في تلك التحولات حتى اللحظة.

حتى مع اندحار "داعش" الذي يؤكّد بدوره أن "باقية وتتمدد" ليست قدر النهايات، فإنّ "جبهة النّصرة" تبدو كأنها الأكثر قدرة -حتى اللحظة- على التكيّف داخل تحولات المشهد السوري، من بين كل القوى "الثورية والجهادية" التي غطّت وجه ذلك المشهد. هذه ليست النهاية، لكنه مثال على حجم السيولة التي تحاصر أحاديث النهايات، وهي السيولة التي لا يراها من تستغرقه التفاصيل، وإنما من ينظر إليها من أعلى.

في تاريخ المنطقة، تفرّقت مِحَنُ الإسلاميين على الجغرافيا والتاريخ، لكنّها هذه المرة اجتمعت، واتّسمت بالشمول والكثافة، وتعدد الأشكال والأنماط في وقت واحد، وأضافت فوق ذلك عمق المحنة الناجم عن وصول الإخوان المسلمين للحكم في مصر، فقد بدا وصولهم هو "النهاية" التي انتظروها أكثر من 80 عاما، ثم حصل الانهيار، وظهر الأمر كأنهم لم يكونوا يعرفون حتى أنفسهم. يكفي هذا الاعتبار لجعل محنة الإسلاميين القائمة أعمق من سابقاتها، وهذ العمق بعض من عمق تحولات المنطقة كلّها.

خضع الإسلاميون مرّة واحدة، وفي جغرافيات متعددة، وباتجاهاتهم كلّها للاختبارات كافّة، الحكم والمعارضة والقتال، وبالرغم من كل ما يمكن قوله عن هول الحدث وجسامة التحدي وكل ما قُدّم من تضحيات ومحاولات وإنجازات لم تستقرّ، فإن النتيجة الراهنة هي الهزيمة، وتشوش اليقين لدى الأنصار، وتراجع الثقة لدى عموم الناس.

هذه ليست نهاية التاريخ، ولا نهاية الإسلاميين، وليس ثمة ما يدفع نحو نهاية كاملة للحالة الإسلامية الإحيائية، بتجلياتها المتعددة، والتي منها ما عُرف بالإسلام السياسي، وإن كان ثمّة ما يمكن أن ينفتح على تحولات في الشكل والمضمون.

فعليّا، كان الإسلاميون التعبير المجتمعي الأقوى والأكثر رسوخا في مواجهة دولة الاستبداد العربيّة، وبدا الأمر وكأنهم كانوا وحدهم الذين يتصدّون لهذه المهمة، من جهة الحجم والتأثير والعمق الشعبي، وبعد عمليات الاجتثاث والإسقاط التي تعرّضوا لها، خلت الساحة تماما للدولة والنظام القديم.

النظام القديم لم يكن محض نظام أمنيّ تسلطيّ منبتّ عن أيّ عمق مجتمعيّ، فحتى الولاءات النفعية ليست سطحية، وثمة عُصب مجتمعية تستند إليها الأنظمة المستبدة، وطوال تاريخها ماهى النظام الحاكم نفسه بالدولة، بل بالوطن، وقد خلق ذلك وعيا لدى فئات واسعة من المجتمع، ترى الدولة في رموز وهياكل وشخصيات معينة تمثّل النظام؛ ولذلك يمكن القول إن المواجهة بمستوياتها المتعددة انحصرت بين "حزب الدولة" الذي يمثّله النظام بتشكيلاته المتنوعة، وبين الإسلاميين بتجلياتهم.

بكلمة أخرى، تمكّن الإسلاميون من أن يصنعوا لأنفسهم مكانة مجتمعية عميقة، وسياسية مؤثّرة، في مقابل مكانة "حزب الدولة"، دون وجود أي قوى مجتمعية أو سياسية ثالثة منفصلة عن الدولة أو عن الإسلاميين، وهذا الفراغ في وجود القوى الأخرى الفاعلة يُرشّح الإسلاميين، إن لم يكن للعودة إلى مكانتهم السابقة، فللحفاظ على وجودهم، وفي كل الأحوال فإن العودة ليست أمرا محالا بالرغم من كل التحولات التي يمكن أن تطرأ على شكلهم ومضمونهم.

هذه المكانة لم تكن بمحض حسن تدبير الإسلاميين، ولكن من قوة حضور الإسلام نموذجا مهيمنا في مجتمعاتنا، دون أن ترى فيهم الجماهير بالضرورة رديفا للإسلام، لكنهم كانوا محاولة إيجابية لحلّ الإشكال الناشئ عن عمليات التحديث الفوقية، التي جعلت من حضور الإسلام في المجال العام مشكلة داخلية لدى المجتمعات العربية والإسلامية.

بصرف النظر عن تصورات الإسلاميين بكل تجليّاتهم لهذه المشكلة، ولحلّها، فإنّ استمرارها يعني استمرار المحاولات، وقوة الإسلام نموذجا مهيمنا في مجتمعاتنا، يعني ضرورة ظهور تجليات له، وانحصار الفعل السياسي في "حزب الدولة" يعني ضرورة ظهور قسيم سياسي آخر يزاحمه، ولا يظهر أن أحدا من غير الإسلاميين يتهيأ لذلك فعليّا.