سياسة دولية

مراجعات الإسلاميين نكوص عن الثوابت أم تقويم راشد للذات؟

بعض قضايا المراجعات مرتبطة بالموقف من السلطة والحاكم ومنهج العنف في التغيير- أرشيفية

تُواجه مراجعات الإسلاميين في أوساط معارضيها انتقادات شديدة، تصل إلى درجة الاتهام في الدين، والنكوص عن الثوابت، والخضوع التام لإكراهات الواقع، والاستجابة المذلة لمطالب الجهات الأمنية. 

فما المقصود بتلك المراجعات التي قامت بها اتجاهات إسلامية على اختلاف توجهاتها؟ ولماذا تباينت الآراء والمواقف بشأنها، بين من يمدحها ويثني على فاعليها، وبين من ينتقدها بشدة وينظر نظرة ريبة إلى أصحابها؟

وجوابا عن ذلك، أوضح الباحث المصري في شؤون الحركات الإسلامية، أسامة الهتيمي، أن المقصود بمراجعات الإسلاميين "هو ما أجرته وما زالت تجريه بعض المكونات الإسلامية على جملة من القضايا الفكرية والسياسية".

ومثَّل لبعض تلك القضايا بـ"الموقف من السلطة والحاكم، ومنهج العنف في التغيير، وتطبيق الشريعة، وإعادة الخلافة، وآليات الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فضلا عن مسائل أخرى، كالنظرة إلى المجتمع، واختيار الأنسب من وسائل الدعوة، وطبيعة خطابها بما يتواءم مع الواقع ومتغيرات العصر". 

وأضاف الهتيمي لـ"عربي21": يعود تاريخ المراجعات داخل الحركات الإسلامية للأربعينيات من القرن الماضي، التي قادها حسن البنا، مؤسس جماعة الإخوان المسلمين، بنفسه عندما خرج بعض عناصر التنظيم الخاص عن أفكار الجماعة ومقاصدها، ما اضطر البنا لتوضيح ذلك كله عبر بيانات ورسائل خاصة، توضح المفاهيم، وتكشف عن مضمون دعوته، ورفضه للفهم المغلوط الذي تبناه أولئك الشباب". 

وتابع الباحث المصري قوله: "ثم كانت محطات كثيرة، منها ما كتبه خليفة البنا المستشار حسن الهضيبي، والمضمنة في كتاب "دعاة لا قضاة"، مضيفا: "غير أن أبرز تلك المحطات ما صدر عن جماعتي الجهاد والجماعة الإسلامية في تسعينيات القرن الماضي، وبالتحديد عام 1997، حيث قدمت الجماعتان العديد من الأبحاث والدراسات لتصحيح المفاهيم، وتناول بعض القضايا الفقهية والسياسية.

ووفقا للهتيمي، فإن "تلك المحاولة لاقت استجابة من السلطة عام 2002م، لينتهي ملف الجماعتين
إلى الحل والإفراج عن آلاف المعتقلين من عناصرها". 

وبيَّن الهتيمي أن "ثمة تباينا حول مفهوم المراجعات بين حركة وأخرى، فهو عند المدرسة الجهادية على خلاف ما هو عليه عند المدرسة الإخوانية، فالعنف لدى الأخيرة لا يعد إشكالية عند التيار العام فيها؛ إذ تكاد أدبياتها تخلو من الحديث عنه، فيما يغلب على مراجعات عناصرها أو بعض مجموعاتها ترتيب الأولويات بين الدعوي والسياسي، وما إلى ذلك. 

وردا على سؤال حول طبيعة تلك المراجعات ومآلاتها، قال الهتيمي: "يتحدد ذلك كله بحسب من يقوم عليها، فإذا كان القائمون عليها من الأفراد العاديين، أو مجموعات صغيرة، كما في حالة شكري مصطفى ومجموعته، أو بعض عناصر الإخوان، كمختار نوح وثروت الخرباوي، وكمال الهلباوي، فلربما أحدثت انشقاقات محدودة، أو أفرزت مكونات جديدة غالبا ما تضعف وتنتهي إلى لا شيء، أو تصبح جزءا من تاريخ الحركة". 

وتابع الهتيمي حديثه: "أما إذا كان القائم عليها قائد الجماعة أو تيارها العام، فإنها تحدث تحولا مصيرا وهاما في مسيرة الحركة، كما حدث مع مراجعات الجهاد والجماعة الإسلامية".

وأشار الهتيمي إلى "اختلاف النظر إلى المراجعات، فهناك من ينظر إليها، سواء ممن هو داخل الحركة أو خارجها، باعتبارها سلوكا سلبيا، فمن بداخل الحركة يرونها استسلاما وتراجعا، ومن بالخارج من معارضي الحركة يعتبرونها تأكيدا على خطأ المنهج المتبع، وأن المراجعة لا تعدو أن تكون تكتيكا فقط، في الوقت الذي ينظر إليها الأغلبية باعتبارها سلوكا إيجابيا يعكس مدى ديناميكية الحركة، واستيعابها للواقع الجديد، وفطنة قيادتها للحفاظ على الكيان، والقدرة على المواصلة لتحقيق الهدف".

من جهته، وصف الداعية السلفي المغربي، حسن الكتاني، ما قام به تنظيم القاعدة بعد انفصال تنظيم الدولة الإسلامية عنه، من تطوير علاقته بالأمة، ومنعه العديد من العمليات المشبوهة، وكذلك مواقف بعض فروعها المنفصلة عنها، كاحترام بقية علماء الأمة، وإن خالفوهم، ومنع العمليات في بلاد المسلمين؛ لأن ضررها أكبر من نفعها"، بالمراجعات الجيدة.

لكن الكتاني انتقد، في حديثه لـ"عربي21"، ما أسماه التراجعات المخيفة لدى كثير من الإسلاميين -من غير أن يسميهم- ما يفضي إلى انتشار العلمنة داخل صفوفهم، وبالتالي يبعدهم عن مهمتهم الحقيقية، ويقربهم من خصومهم العلمانيين"، على حد قوله. 

وفي السياق ذاته، رأى ناشط إسلامي مصري، فضل عدم ذكر اسمه، مراجعات سيد إمام، المنظر الجهادي المعروف، بأنها "لا تبعد عن الضغوط الأمنية، فهو مع اعترافه بأخطاء منهجية، لكن مراجعاته في أصلها جاءت استجابة لضغوط أمنية".

ووصف الناشط المصري لـ"عربي21" "بعض قادة المراجعات في مصر بأنهم بعد الانقلاب ارتموا في أحضان النظام بالفعل، كطارق الزمر، وكرم زهدي، وأخطرهم ومنظرهم ناجح إبراهيم".

بدوره، دافع المراقب العام الأسبق لجماعة الإخوان المسلمين في الأردن، سالم الفلاحات، عن فكرة المراجعات، مبينا أن فلسفتها تقوم على "ضرورة مراجعة الذات، وتقويم المسار بعد أن قطع العاملون شوطا طويلا في العمل، من غير أن يتمكنوا من تحقيق أهدافهم، أو الوصول إلى ما وعدوا به". 

وأكدّ الفلاحات لـ"عربي21" أن المراجعات منهج قرآني ونبوي، مستدلا بآيات وأحاديث تثبت ذلك وتؤكده، منتقدا ما يتردد في أوساط الإسلاميين بكثرة: "علينا العمل والنتائج على الله"؛ لأن ذلك يقود إلى ركون تلك الحركات إلى ما اعتادت عليه وألفته من وسائل، مع أن التجربة أثبتت فشلها وعدم جدواها، ما يقتضي إعادة النظر في مجمل تلك الطرق والوسائل، وضرورة البحث الجاد عن مخارج حقيقية؛ لإخراج الأمة من أزماتها الخانقة.

وردا على سؤال حول دوافع تلك المراجعات، قال الفلاحات: "ليس صحيحا ما يقال عن دوافع المراجعات (هكذا على العموم) بأنها نابعة من حالة انكسار وهزيمة بعض القيادات والعاملين"، مذكرا بأن الدكتور عبد الله فهد النفيسي طالب الحركة الإسلامية في الأردن بمراجعة مسارها بعد فوزها الكاسح في الانتخابات المشهودة عام 1989، ومحذرا من أنها إن لم تحسن إدارة المرحلة فإنها ستواجه مخاطر كبيرة".

وأضاف: "وفي المرحلة ذاتها، مرحلة انتصار الحركات الإسلامية وارتفاع أسهمها، كانت كتابات المفكر عمر عبيد حسنة، تتوالى بضرورة النقد الذاتي، والبحث عن مكامن الخلل والضعف"، فلم تكن نتيجة انهزام ولا انكسار كما يصف منتقدو المراجعات ومعارضوها. 

وتساءل الفلاحات: وبتجاوز ذلك كله، ما الذي يضير الحركات الإسلامية لو قامت بمراجعة مسيرتها، ونقد ذاتها، وتقويم تجربتها بعد انكسارها وهزيمتها؟ ألم تقم كل من ألمانيا واليابان بفعل ذلك بعد هزيمتهما الكبرى في الحرب العالمية الثانية؟ وقبل ذلك ألم يوجه القرآن إلى ضرورة الرجوع إلى الذات للبحث عن أسباب الهزيمة والانكسار بعد أن تساءل الصحابة (أنّى هذا)، فأتاهم الرد القرآني (قل هو من عند أنفسكم)؟. 

وتحدث الفلاحات أنه بعد مسيرته الطويلة في صفوف جماعة الإخوان المسلمين، التي تبوأ فيها موقع المراقب العام، وصل إلى قناعة ذاتية تامة بأن المراجعات قضية ضرورية وملحة، وهو ما دون خلاصته في كتابه الصادر حديثا بعنوان "إضاءات ومراجعة لمسيرة جماعة الإخوان المسلمين".

وختم الفلاحات حديثه برده على السؤال الإشكالي: "ما الحد الفاصل بين "مراجعات الإسلاميين كضرورة ووعي ذاتي، وبين تراجعاتهم الناتجة عن انكسار واقعي؟ قائلا: يتبين ذلك بالنظر في طبيعة تلك المراجعات، فإن كانت تروم تقويم التجربة، بتحديد مكامن الخلل والضعف، وتحليل أسباب الفشل الذاتي، مع سعيها الجاد لمعالجة ذلك كله، متوافقة في ذلك كله مع النصوص والقواعد الشرعية، فإنها مراجعات محمودة ومطلوبة، يرجى خيرها للحالة الإسلامية برمتها.