كتاب عربي 21

في دعاية المطبّعين الجدد.. الدعم والكلفة!

1300x600

اتلا جديد في مقولات المطبعين العرب الجدد التبريرية، فما تقوله الآن بعض الشخصيات السعودية المعروفة، في سياق حملات "الذباب الالكتروني"؛ لتبرير التطبيع، هي ذاتها تلك التي سمعها العرب والفلسطينيون طويلا من المطبّعين المصريين، من بعد كامب ديفد وإلى اليوم.

ترتكز دعاية المطبّعين الجدد على عدد من الركائز الزائفة. في هذه المقالة سوف نتناول بالنّقاش ركيزة واحدة منها، على أمل مناقشة بقية ركائز المطبّعين في مقالات قادمة إن شاء الله.

 

يتحدث المطبّعون المصريون عن عنصرين اثنين في هذا السياق، الأول، حروب بلادهم ضدّ "إسرائيل"، والثاني الانحدار التنموي والاقتصادي الذي تعانيه بلادهم بسبب تلك الحروب


الركيزة الأولى في دعاية المطبعين الجدد، قولهم إن بلادهم - أي السعودية - قد دفعت ثمنا باهظا لقضية ليست هي قضيتها، بل قضية باعها أصحابها. يذكّرنا ذلك بحكاية الحروب العديدة التي يزعم المطبّعون المصريون أنهم خاضوها لأجل فلسطين وأهلها، وهذه المقارنة تكشف عن حجم المغالطة في ادعاءات المطبّعين السعودية، دون أن يكون لما يقوله المطبّعون المصريون قيمة فعلية في ذاته.

يتحدث المطبّعون المصريون عن عنصرين اثنين في هذا السياق، الأول، حروب بلادهم ضدّ "إسرائيل"، والثاني الانحدار التنموي والاقتصادي الذي تعانيه بلادهم بسبب تلك الحروب.

ثمة إغفال متعمد، في الدعاية التطبيعية المصرية؛ لجملة حقائق تُخلي حُجّة المطبّعين من أيّ قيمة أو اعتبار، ومن تلك الحقائق:

أولا: أنّ مصر لم تخض الحروب منفردة، وتحديدا حروب الأعوام 1948 و1967، و1973، وأنّ لا أحد من شركاء مصر في تلك الحروب، قد أسمع الفلسطينيين من المنّ والأذى ما سمعه من المطبّعين المصريين، وأنّ لا أحد من العرب الذين شاركوا في تلك الحروب؛ قد ادّعى أن سبب تخلف بلاده هو حربها لأجل القضية الفلسطينية.

نعم، قد يكون وجود الكيان الصهيوني، واشتغاله على إضعاف العرب؛ من أسباب التردّي العربي، لكن هذا يجعل وجوده قضية عربية، لا فلسطينية فحسب.

ثانيا: أنّ الحروب العربية، لم تكن حروبا لأجل الفلسطينيين فحسب، ولو زعمنا أنها لم تكن لأجل الفلسطينيين بالمطلق لما تجنينا؛ إذا أخذنا - في الاعتبار - الظروف التي عاناها الفلسطينيون في بعض البلاد العربية، والمؤامرات التي تعرّضت لها ثورتهم ثم مقاومتهم من بعض البلاد العربية كذلك، بيد أنّها - أي الحروب - كانت لأجل العرب أنفسهم، بمعنى أن المعركة كانت في مواجهة الهجمة الاستعمارية على البلاد العربية، لا دفاعا عن الشعب الفلسطيني فحسب.

 

فلسطين لم يكن فيها دولة بالمعنى السياسي الحديث عندما وقعت النكبة، وإنمّا كان فيها سكّانها الأصليون؛ الذين خضعوا للحكم العثماني، ثم بعد ذلك للانتداب البريطاني


هذه المسألة تحديدا تحتاج عرضا مسهبا، إلا أن المقام لا يتّسع لذلك، ولكن ما ينبغي قوله أن فلسطين لم يكن فيها دولة بالمعنى السياسي الحديث عندما وقعت النكبة، وإنمّا كان فيها سكّانها الأصليون؛ الذين خضعوا للحكم العثماني، ثم بعد ذلك للانتداب البريطاني.

وبينما كان الأمر كذلك في فلسطين الانتدابية، فقد صنع كل من الانتداب البريطاني والفرنسي للعرب، في البلاد العربية الأخرى التي استعمروها، ورسموا حدودها، وحدات سياسية، صارت دولا؛ وقت وقوع النكبة الفلسطينية في العام 1948، وبهذا لم يكن ثمة دولة فلسطينية حينما وقعت النكبة، وإنما شعب عربيّ أصيل تعرض لغزو استعماري صهيوني، فكانت القضية بالضرورة، قضية عربية لا فلسطينية، إذ ظلّ الفلسطينيون على الأصل الذي كان عليه عرب المشرق، لا سيما في الشام، ولم يعاينوا بعد التحوّل من شعب عربيّ إلى شعب فلسطيني بهوية وطنيّة خاصّة!

ثالثا: لو استعرضنا الحروب المصرية، سوى حرب العام 1948، فإنّ العدوان الثلاثي على مصر عام 1956، لم يتعلق مباشرة ولا من أيّ وجه بفلسطين وأهلها، وإنما بالعدوان الصهيوني الاستعماري نفسه، ومع ذلك دفع الفلسطينيون في غزّة ثمن ذلك العدوان، وواجهوه بمقاومة ناشئة تصدّت له في غزّة وعلى تخومها.

أمّا حرب العام 1967، فكانت عدوانا صهيونيّا كذلك؛ تصدّت له دول عربية أخرى، وأدّى لاحتلال بقية فلسطين، وأراض عربية أخرى، منها سيناء.

 

المشكلة لم تكن في فلسطين وأهلها، وأن القضية في أساسها عربية، وأن العرب كانوا يدافعون عن أنفسهم قبل أن يدافعوا عن فلسطين وأهلها


هذا كافٍ للقول إنّ المشكلة لم تكن في فلسطين وأهلها، وأن القضية في أساسها عربية، وأن العرب كانوا يدافعون عن أنفسهم قبل أن يدافعوا عن فلسطين وأهلها.

وأمّا حرب العام 1973، المصرية السورية، فقد كانت أهدافها المصرية - كما تبين لاحقا - هي تحريك المياه الراكدة لاسترجاع سيناء عن طريق المفاوضات، وهو الأمر الذي انتهى، للأسف الشديد، بالتفريط بالحقّ الفلسطيني، واعتراف مصر بالكيان الصهيوني، ودفع الفلسطينيين لخيارات التسوية المجحفة بحقهم. وعلى أي حال، فهذه الحرب كانت لأغراض مصرية صرفة، ولم تكن دفاعا عن فلسطين وأهلها!

رابعا: في تلك الحروب، ضاعت فلسطين، إما بالحرب المباشرة، كما في النكبتين، أو بالمفاوضات والاعتراف بالكيان الصهيوني، كما فيما بني على حرب تشرين/ أكتوبر. وهذا بالضرورة يبقي فلسطين قضية عربيّة، فالمهزوم أو المفرّط الذي ضيّعها؛ لا يسقط واجبه إزاء ذلك بالتقادم، أو باستشراء الخيانة والوقاحة.

خامسا: الفلسطينيون المتّهمون ببيع أرضهم، والتخلّي عن قضيتهم، انتزعوا حقّهم في مقاومة عدوّهم؛ من العرب الذين أرادوا فرض الوصاية على الفلسطينيين، واستخدام قضيتهم في صراعات دولهم الناشئة حينها، وقد ظلّت - وحتى اللحظة - مقاومة الفلسطينيين تتعرض للمؤامرات ومحاولات التصفية وبالتنسيق المباشر مع العدوّ، ووحده أعمى البصيرة الذي يعتقد أنه يمكن للفلسطينيين إدارة مقاومة ناجعة في جغرافيا صغيرة محصورة؛ دون ظهير يستندون إليه، فكيف والظهير المُفترض يتآمر عليهم ويتعاون مع عدوّهم؟!

سادسا: صحيح أن القيادة الفلسطينية المتنفّذة اقترفت خيارات مدمّرة ثبت فشلها بالضرورة، وفتحت خياراتها المجال واسعا أمام المطبّعين العرب، لكن، ودون أي تبرير لتلك الخيارات أو دفاع عنها، فإنّ السياسات الرسمية العربية التآمرية هي التي دفعت الفلسطينيين لتلك الخيارات الكارثية، بداية من بعد حرب تشرين أول/ أكتوبر 1973، ثم من بعد السلام المصري الإسرائيلي، وأخيرا من بعد حرب الخليج الثانية، ومع ذلك ظلّ الفلسطينيون يدفعون وحدهم ثمن التفريط العربي، واستمرار الوجود الصهيوني في الأرض العربية!

سابعا: لم يطلق المصريون رصاصة واحدة على الكيان الصهيوني، منذ 43 عاما، ومع ذلك ازداد الحال المصري ترديا واهتراء، بينما كانت الفترة الممتدة من الحروب العربية - الصهيونية لا تتجاوز الـ25 عاما، من عام 1948 إلى العام 1973.

لقد أخذت مصر - إذن - ما يقارب ضعف مدة الحروب فرصة لإعادة بناء نفسها، والنهوض باقتصادها وشعبها، ومع ذلك فحالها بهذا القدر من البؤس. فهل المشكلة في الفلسطينيين أم في وجود الكيان الصهيوني؟! وهل المشكلة في الفلسطينيين أم في الأنظمة العربية التي جعلت شعوبها في ذيل الأمم؟!

هذه مناقشة موجزة لجانب من دعاية المطبّعين المصريين، مع أن أصل المناقشة مع المطبّعين السعوديين الجدد، والقصد من الاستطراد مع دعاية المصريين، القول: إنّ المصريين دخلوا بالفعل في هذا العدد من الحروب مع الكيان الصهيوني، وتبين بمناقشة تستند إلى الوقائع التاريخية أنّهم كانوا يدافعون عن أنفسهم في مواجهة حالة استعمارية، ومع ذلك ضاعت فلسطين في تلك الحروب، فكيف بالذين لم يخوضوا حربا واحدة مع الكيان الصهيوني؟ بأيّ شيء يمنّون على الفلسطينيين؟ بالدعم المالي؟!

 

سبب الطفرة النفطية، والنهضة العمرانية، والتحولات المدينية في المجتمعات الخليجية، وتحديدا في السعودية، هو الصراع العربي الإسرائيلي


حسنا.. لا شك أن الحروب مدمّرة، وإن لم تكن نهاية التاريخ، فلم تحتج ألمانيا لإعادة بناء نفسها من بعد الحرب العالمية الثانية؛ للفرصة التي أتيحت لمصر طوال الـ43 عاما الماضية. ولا يمكن مقارنة خسائر مصر بالدمار الهائل الذي أصاب ألمانيا، ولكن تظلّ مصر بلدا دفعت أثمانا لوجود الكيان الصهيوني، بينما، وفي المقابل استفادت السعودية، من حروب العرب ضد الكيان الصهيوني، بما لا يمكن مقارنته بالتبرعات المالية التي قدّمتها.

إنّ سبب الطفرة النفطية، والنهضة العمرانية، والتحولات المدينية في المجتمعات الخليجية، وتحديدا في السعودية، هو الصراع العربي الإسرائيلي. فقد ارتفعت أسعار النفط من 3.6 دولارات للبرميل الواحد، قبل حرب تشرين/ أكتوبر، إلى 12 دولارا بعد الحرب مباشرة، مما أدّى إلى زيادة هائلة غير مسبوقة في الإيرادات السعودية، بأضعاف ما كان عليه حالها قبل الحرب، وذلك بفضل الحرب والتلويح بحظر النفط. فآخر من يمكنه أن يتحدث عن الثمن المدفوع بسبب القضية الفلسطينية هم المطبّعون السعوديون، بل هم وحدهم الذين لا يمكنهم الحديث في هذا الأمر بالمرّة!