قضايا وآراء

تأجيل الانتخابات البلدية في تونس: رهانات السلطة وممكنات المعارضة

1300x600

لو أردنا أن نضع الانتخابات البلدية التونسية في سياق "عام"، لقلنا إن الضبابية التي ترتبط بهذا الاستحقاق الانتخابي، بل بكل ما يتصل بالحكم المحلي، ما هي إلا مظهر من مظاهر الردة النسقية عن "منطق الثورة" إلى "منطق النظام". ونحن نقابل هنا عن قصد بين الثورة والنظام، وليس بين الثورة والدولة. فالثورة، رغم بعدها التأسيسي، لا تتعارض مع الدولة، بل مع منطق النظام وآليات إنتاجه للمعنى، وتوزيعه للسلطة والثروات المادية والرمزية. أما النظام في تونس، فإنه لم يرتفع، رغم كل ادعاءاته الذاتية، إلى منطق الدولة، بل ظل محكوما بتضامنات تقع في مستوى أقل من الدولة - بل في تعارض وظيفي معها - من مثل الجهة والإيديولوجيا والشبكات الزبونية، وغيرها من "العصبيات" التقليدية والحديثة.

 

ضبابية التي ترتبط بهذا الاستحقاق الانتخابي، بل بكل ما يتصل بالحكم المحلي، ما هي إلا مظهر من مظاهر الردة النسقية عن "منطق الثورة" إلى "منطق النظام"


ولا شك في أننا لن نفهم الواقع السياسي الحالي حق فهمه؛ إلا بوضعه في إطار سيرورة كبرى، كان محددها الأساسي هو استراتيجية النواة الصلبة للمنظومة الحاكمة قبل 14 كانون الثاني/ يناير 2011؛ في العودة لمركز السلطة، وتجاوز حالة "الاختلال المؤقت" الذي أعقب هروب المخلوع بن علي. فقد أظهرت النواة الصلبة للمنظومة الحاكمة، منذ الاستقلال الصوري عن فرنسا، وهي نواة جهوية - مالية- أمنية، قدرة كبيرة على توظيف التناقضات الهووية والصراعات الثقافوية المتحكمة في العلاقة بين الإسلاميين والعلمانيين، خلال الفترة التأسيسية وبعدها، مما مكّنها من تحقيق الانتصار في الانتخابات التشريعية والرئاسية لسنة 2014. إنه انتصار يمكننا اختزاله إجرائيا في لحظتين مفصليتين: اللحظة الأولى هي لحظة الاعتراف بالمكوّن التجمعي الذي قامت عليه الثورة جزءا بنيويا من "العائلة الديمقراطية"، بقيادة اليسار الثقافي، وذلك في إطار صراعها "الوجودي" للدفاع عن "النمط المجتمعي التونسي" ضد "الظلامية" و"الرجعية" بقيادة "حركة النهضة". أما اللحظة الثانية، فهي لحظة التوافق "البراغماتي" بين النداء وحركة النهضة ذاتها؛ لقيادة البلاد بالمنطق السلطوي النوفمبري ذاته، مع تعديلات "صورية" تهم شرعية الصندوق لا شرعية الأداء.

بعد وصول النداء إلى الحكم، وفي جميع حكوماته المتعاقبة، صارت كل أمراض "الجمهورية" الموروثة من عهد المخلوع - من مثل الجهوية والزبونية والتغوّل الأمني في العلاقة بالداخل، والتبعية والارتهان للجهات المانحة وفقدان مقومات السيادة في العلاقة بالخارج - سياسات لحكومات تجد شرعيتها اليتيمة في صندوق الاقتراع. فلا يمكن لأية حكومة أن تدّعي شرعية الأداء؛ لأنها قابلة للتثبت العلمي من لدن الخبراء، بل قابلة للاختبار العفوي من لدن المواطنين أنفسهم في علاقتهم بالسوق وبأجهزة النظام، كما لا يمكن لتلك الحكومات أن تدّعيَ شرعية الوفاء للبرنامج الانتخابي لنداء تونس أو غيره. وقد يكون من نافلة القول التنصيص على أنّ من كان سقف أدائه وحاضنة كفاءاته هو "النظام التجمعي"، بما هو عقلية في الحكم، سيكون أعجز عن الوفاء لاستحقاقات الثورة، أو حتى للدستور الذي حاول مأسسة الحد الأدنى من تلك الاستحقاقات.

لو أردنا أن نفهم التعاطي الحكومي والرئاسي "المشبوه"؛ مع الاستحقاق الانتخابي البلدي المرتقب في 25 آذار/ مارس 2018 - ذلك الاستحقاق الذي كان مقررا في 14 كانون الأول/ ديسمبر 2017 ثم تأجّل نزولا عند رغبة العديد من أحزاب المعارضة - قد يكون علينا أن نطرح السؤال التالي: هل يمكن للمنظومة الحاكمة أن تقبل بانتقال جزء من سلطاتها إلى جهات محلية؟ أو هل يمكن للنواة الصلبة للمنظومة الحاكمة، وهي نواة جهوية أساسا، أن تتنازل "طوعيا" عن جزء من صلاحياتها وامتيازاتها المتوارثة؟ أم إنها ستحاول الانقلاب على الدستور في هذه المسألة كما انقلبت عليه من قبل في مسائل كثيرة؟

 

سيكون من العبثي أن ننتظر من هذه المنظومة ألاّ تمضيَ قُدما في استراتيجيات الانقلاب على استحقاقات الثورة، بما فيها اللامركزية والحكم المحلي

بعد أن نجحت المنظومة الحاكمة في انتهاك الدستورَ أكثر من مرة، رغم كل الضغط والمعارضة البرلمانية والمدنية، وبعد أن نجحت في تعطيل تركيز بعض الهيئات الدستورية وإفراغ البعض الآخر من معناه، سيكون من العبثي أن ننتظر من هذه المنظومة ألاّ تمضيَ قُدما في استراتيجيات الانقلاب على استحقاقات الثورة، بما فيها اللامركزية والحكم المحلي. فالرهان الأساسي لهذه المنظومة كان دائما هو فرض المركزية والعمل على شخصنة السلطة وترسيخ طابعها الجهوي، مع العمل على منع انبثاق أية أشكال للحكم/ للمقاومة التي قد تنطلق من القواحل والدواخل؛ لِتُهدّد الامتيازات المادية والرمزية "للسواحل" وشبكاتها الزبونية المتنفذة. لكن، ماذا سنجد على وجه الدقة إن نحن نزّلنا هذا الرهان السلطوي في أرض الواقع؟

للإجابة عن هذا السؤال؛ يمكننا أن نعتمد على معلومة وعلى حدس. أمّا المعلومة، فهي التباطؤ المقصود من مصالح رئاسة الحكومة في نشر رزنامة الانتخابات في الرائد الرسمي للبلاد التونسية، وهو ما حذرت منه الهيئة العليا المستقلة للانتخابات. وأمّا الحدس، فهو الامتناع المرتقب من رئاسة الدولة عن دعوة الناخبين في أجل أدناه ثلاثة أشهر قبل الانتخابات، أي قبل 25 من الشهر الحالي.. إننا أمام سلوك سلطوي مدروس، وهو سلوك يعكس رهانات المنظومة النيو-تجمعية وعقليتها العاجزة عن الاشتغال داخل ضوابط الدستور واستحقاقات الثورة حتى في حدها الأدنى. ولكنه سلوك يعكس كذلك عجز أغلب أطياف "المعارضة" السياسية والمدنية والنقابية عن التصدي لهذا الرهان السلطوي، بل قبولها "الضمني" به واستعدادها – لأسباب مختلفة - أن تشتغل ضمن السقف "النيو-تجمعي" في مرحلته التوافقية بقيادة ورثة التجمعى المنحل.

 

يصعب على أي مراقب محايد للشأن التونسي أن يأتيَ بأدلة – بل بقرائن - تفيد بأنّ الحكم المحلي واللامركزية يمثلان أولوية من أولويات المنظومة الحاك


يصعب على أي مراقب محايد للشأن التونسي أن يأتيَ بأدلة – بل بقرائن - تفيد بأنّ الحكم المحلي واللامركزية يمثلان أولوية من أولويات المنظومة الحاكمة. ولكن قد يكون من اليسير على ذلك المراقب أن يأتي بأكثر من دليل على تناقض اللامركزية مع أولويات النظام، ومع استرتيجياته في إعادة التموقع والانتشار. فالنظام الذي جعل من أولوياته "مصالحة" رموز الإدارة التجمعية، وفعل كل ما يستطيع لمنع إرجاع الحقوق لضحاياهم؛ عبر التشكيك الممنهج في هيئة الحقيقة والكرامة وغيرها.. والنظام الذي أمعن في إذلال الشعب التونسي، بالدفع برموز التجمع وأزلام المخلوع إلى واجهة السلطة، والنظام الذي لم يخف رغبته في تعديل الدستور والعودة إلى النظام الرئاسي؛ ومركزة السلطة في يد حاكم قرطاج.. هذا النظام لا يمكنه أن يقبل بتفتيت تلك السلطة، أو خلق مراكز للنفوذ قد تنجح فيما فشلت فيه كل النخب المتنازعة حتى الآن: إعادة توزيعٍ أكثر عدلا للسلطة والثروة ، وخلق الشروط الموضوعية والمؤسساتية لبناء مواطنة حقيقية تتحرك من خارج السردية السلطوية للاستقلال والتحديث.

إذن، ما كان رهان المنظومة الحاكمة الحقيقي هو منع الانتخابات البلدية في شهر آذار/ مارس 2018، وتأجيلها إلى ما بعد الانتخابات الرئاسية والتشريعية القادمة؟ وإذا ما كانت هذه المنظومة تمارس كل ما في وسعها للانقلاب على هذا الاستحقاق الدستوري، فإن الرهان الحقيقي لقوى المعارضة الوطنية - لا تلك القوى السياسية التي تكاد تختزل كلمة المعارضة في الهوس المرضي بحركة النهضة - هو منع ذلك الانقلاب الذي سيضرب ركنا من أركان الانتقال الديمقراطي في مقتل، كما أن على تلك القوى أن تفرض الانتخابات في موعدها، وأن تتجاوز حساباتها الحزبية الضيقة. ولا شك في أنّ هذا المطلب سيكون صعب التحقق؛ في ظل قيادة الجبهة الشعبية لقوى المعارضة، وإصرار مكوّناتها اليسارية والقومية على اختزال النظام واقعيا في "النهضة"، على الرغم من كل عنترياتها الكلامية ضد رئيس الدولة وحزبه. ولذلك، فإن مستقبل الانتخابات البلدية - ومن ورائها الحكم المحلي واللامركزية – سيكون رهنا بقدرة القوى المعارضة - خارج الجبهة الشعبية - على فرض أجندتها، عبر وسائل ضغط قد تصل إلى حدود التلويح بالانسحاب من المجلس النيابي، أو الانسحاب الفعلي منه، إذا ما أصرّ نداء تونس وحلفاؤه على الانقلاب على الحكم المحلي.. كما انقلبوا من قبل على الكثير من أحكام الدستور واستحقاقات الثورة بذرائع كان محصولها ما نرى.