ملفات وتقارير

فصل الدين عن السياسة.. هل بات مقبولا في أوساط إسلامية؟

جدل يدور حول ضرورة تحرير الديني من هيمنة السياسي وسلطته- تعبيرية

في سياق ما يُوصف بـ"المراجعات" التي تقوم بها شخصيات وجهات إسلامية مختلفة، يدور الجدل حول ضرورة تحرير الديني من هيمنة السياسي وسلطته، وفي الوقت نفسه تحرير السياسة من هيمنة الديني ورجالاته كما هو شائع في نماذج معاصرة.


ويحتدم الجدل في تلك الأوساط حول وصفة العلمانية الناجزة "فصل الدين عن السياسة"، بين من يراها الحل الأمثل لإشكالية دمج الديني بالسياسي، ومن يدعو إلى ضرورة التمييز بين الديني والسياسي مع عدم إسقاط المرجعية الإسلامية، وبين من يرفضها رفضا قاطعا لاصطدامها بشمولية الإسلام المهيمنة على مختلف شؤون الحياة بحسب المفاهيم المؤسسة للحركات الإسلامية المعاصرة.


ووفقا للناشط الإسلامي الأردني، والعضو المؤسس في حزب "الشراكة والإنقاذ"، غيث القضاة، فإنه لا يمكن بحال القبول بدمج الديني بالسياسي بعد كل تلك الممارسات التي تداخلت فيها هيمنة الديني على السياسي كما في نموذج دولة "ولاية الفقيه" في إيران، أو سيطرة السياسي على الديني، وتوجيهه بشكل مباشر كما في نموذج الدولة السعودية.


وأضاف غيث لـ"عربي21": "وكذلك ما وقع لكثير من الحركات الإسلامية في ممارساتها للعمل السياسي،  من إضفاء القداسة على آرائها ومواقفها وممارساتها السياسية، ما يعني بالضرورة التأسيس لرؤية مغايرة تفارق رؤية دمج الديني بالسياسي على مختلف تجلياته الرسمية أو الدعوية الحركية".


واستذكر غيث تاريخية نشوء العلمانية الغربية في أوروبا كردة فعل على التحالف بين الملوك ورجال الكنيسة في العصور الوسطى، فكان من شعارات الثورة الفرنسية "اشنقوا آخر ملك بأمعاء آخر قسيس"، التي استقرت في مآلاتها على تبني مقولة (فصل الدين عن السياسة).


وأبدى غيث تحفظه على تلك المقولة، بمعنى فصل الدين عن الحياة، لأنها أقصت الدين كمرجعية قيمية عليا موجهة للإنسان وأقامت مقامها مرجعية عقل الإنسان ذاته، وهو ما ترفضه الأديان جميعها.


وأشاد الناشط الإسلامي القضاة بالجانب الإيجابي للعلمانية الغربية، وهو أنها لم تجعل للدين وصاية على السياسة، ولم تجعل للسياسة سلطة أو وصاية على الدين، وهو ما ينبغي أن يكون الحال عليه بعدم دمج الديني بالسياسي. 


وحذر القضاة من "وجود سلطة دينية تتحكم في الشأن السياسي وتسيطر عليه" داعيا إلى ضرورة التمييز بين المستوى الديني ومجالاته، وبين المستوى السياسي ومجالاته، مع رفض الدمج بينهما بأي حال من الأحوال.


وانطلاقا من رؤيته تلك أشار القضاة إلى أن "أي حزب ذي توجه إسلامي، عليه أن يتبنى فكرة "دولة مدنية بمرجعية إسلامية"،  وأن يكون الناس على اختلاف أديانهم وأفكارهم شركاء في المواطنة على أساس غير عقائدي".


في السياق ذاته رأى الداعية الأردني، عماد أبو قاعود أن "فصل الدين عن السياسة، بمعنى عدم استغلال السياسي للدين وتوظيفه لصالحه أو صالح حزبه في الانتخابات البرلمانية وغيرها من الممارسات السياسية، وتصويره على أنه واجب شرعي، أمر مقبول ومطلوب".


وتابع حديثه لـ"عربي21": فالسياسة شأن دنيوي كالزراعة والصناعة، يمارسها الناس لتحقيق مصالحهم الدنيوية، وليس من وظيفة الدولة حراسة الدين كما عرف علماؤنا السابقون الإمامة، فالسلطان أو الخليفة ليس ظل الله في الأرض، وإنما وظيفته تأمين الحدود، وتوفير الحد الأدنى من العيش الكريم".


أما فصل الدين عن الدولة، بمعنى أن تكون السلطة على مسافة واحدة من المسلمين على اختلاف توجهاتهم الفكرية والسياسية، وغيرهم من مواطنيها فهذا أمر مطلوب وفقا لحامل شهادة الدكتوراه في التفسير وعلوم القرآن (أبو قاعود).


وجوابا عن سؤال: أليس من واجبات الدولة تطبيق الشريعة وأحكامها؟ قال أبو قاعود: "لا ليس من واجبات الدولة تطبيق الشريعة، وإنما يجب عليها تطبيق اختيارات الشعب القانونية والتشريعية، فإن أراد الشعب قانونا ما وجب على الدولة تنفيذه، فالشعب مصدر السلطة". على حد قوله.


من جانبه وصف الباحث المصري في الفكر السياسي الإسلامي، محمد الصياد "مسألة فصل الدين عن الدولة عند الإسلاميين بالملتبسة والمتشابكة، فهم لا يفرقون بين فصل الدعوي عن السياسي، أو الدين عن الدولة مجازا، وبين فصل الشريعة كلها عن الدولة".


ورأى الصياد أن "المشكلة الحقيقة، وجوهر المسألة يكمن في أن معظم الدساتير تنص على أن الشريعة الإسلامية مصدر التشريع الرئيسي في الدول العربية والإسلامية، فمهمة الإسلاميين ينبغي أن تتركز على المطالبة بتفعيل القوانين، ومأسسة الدستور، أما البقاء في دائرة (إسلامية إسلامية، لا شرقية ولا غربية)، فلن يجدي نفعا، فهو من الحماسة الفارغة، التي لا يُبنى عليها عمل على الأرض".


وتابع الصياد قوله: "لا بد من إخراج الدين من بطن الدولة، كما يقول رضوان السيد، فالدولة ليست مسؤولة عن إقامة الصلاة لشخص كسول، بل هي تهيئ الأجواء المناسبة فقط لإقامتها، وهي ليست مسؤولة عن ضمير شخص ظالم أو فاسد أو مرتش أو عاق، لكن غاية ما يمكن للدولة فعله إنفاذ القانون على الجميع بلا استثناءات، وهو ما ينبغي أن يكون في دائرة الإسلاميين حتى نصل إلى نقاط تلاق بين فئات المجتمع".


وذكر الصياد لـ"عربي21" أن من الأهمية بمكان التركيز على أن الدين ليس سلطة فقط، ولا سياسة فقط، وكثيرا ما ردد الإسلاميون مقولة شمولية الدين للحياة، ثم هم يختزلون الدين في السلطة، فإذا هم تركوا السلطة تركوا الدين كله حتى ترجع إليهم، وإن هم أمسكوا السلطة صبوا كل جهودهم على السياسة وتركوا الدعوة".


وردا على سؤال عن كيفية معالجة نتائج دمج الديني بالسياسي على مختلف تجلياته الرسمية والدعوية، رأى الصياد أن "الأنسب للإسلاميين في هذه المرحلة وغيرها الفصل بين الدعوي والسياسي، حتى يتمكنوا من بناء كوادر مؤهلة سياسيا، تدرك الخرائط، وتفهم الأمور كما هي عليه بلا تهويل".


بدوره وصف القيادي في جماعة الإخوان المسلمين في الأردن، عبد الرحمن الدويري الدعوة إلى "فصل الدين عن السياسة أو الدولة بالخطوة الأولى لعزل الدين عن الحياة برمتها".


ولفت الدويري إلى أن "العنوان الإسلامي بات مستهدفا بشكل مباشر، مع الترحيب بالتيارات الفكرية والسياسية الأخرى" متسائلا: لماذا لا يتوجسون خيفة إلا من "الإسلامي"، ولماذا تنتابهم المخاوف والهواجس من الممارسة الإسلامية دون غيرها؟.


واستغرب الدويري تذرع بعضهم بذريعة "التخوف من إضفاء القداسة على الممارسة الإسلامية للسياسة" لتبرير وتمرير الدعوة إلى "فصل الدين عن السياسة أو الدولة"، مطالبا من يتذرع بذلك أن يأتي بدليل واقعي وعملي يثبت أن الإسلاميين يضفون القداسة على ممارستهم السياسية.

 

وأكدّ الدويري لـ"عربي21" أن الإسلام جاء ليدير شؤون الناس كلها، ولينظم مناحي الحياة جميعها، والسياسة جزء من ذلك كله، فكيف تستقيم الدعوة إلى عزل الدين عن تنظيم شؤون السياسة وتدبير أمورها، كما ينظم  شؤون الحياة الأخرى؟.


وتساءل الدويري "إذا كان للشرع رأي وحكم صريح في كل فعل سياسي واجتماعي وإنساني، فكيف يمكننا تسويغ الدعوة إلى فصل الديني عن السياسي"؟ وكيف نثبت احترامنا للشرعي ونحن نمنعه من هذا الحق؟.


وانتقد الدويري في ختام حديثه "الدعوة إلى الدولة المدنية، لأن القول بذلك على إطلاقه يعني على الفور عزل الدين عن التدخل في إدارة الحياة، وتكريس العلمانية دينا جديدا على الجميع أن يؤمن به".