مقالات مختارة

حملات تدنيس التاريخ العربي

1300x600

مثلما حدث لحقل الفقه الإسلامي الذي أقحم كل من هبّ ودبّ نفسه في التحدث باسمه من خلال نشر ادعاءات دينية خاطئة، وبلادات تخالف العقل، والمنطق، والقيم، واستعمالات دنيوية انتهازية لتحقيق مكاسب سياسية واجتماعية، كذلك يحدث الأمر نفسه الآن بالنسبة إلى حقل التاريخ العربي.

 

فجأة، بدأنا نرى أعداداً متزايدة من المجانين، والمهرّجين، واليائسين من الحاضر والمستقبل يتنطعون للحكم على التاريخ العربي بتعابير بذيئة من الشماتة، والسّب، والشتم، أو بانتقاء متعمد لأحداث صغيرة محدودة واعتبارها كظواهر عامة تعيب هذه الأمة، أو بترديد ببغائي لما قاله هذا المستشرق، أو ذاك الملفق «الإسرائيلي» النزعة والأهداف.

 

الهدف الأساسي من هذه الحملة واضح، وهو زرع الشكوك، والخجل من تاريخ أمتهم في أذهان الشباب العرب من جهة، والعمل على تهميش، وتشويه أحد أهم مكونات الهوية العروبية القومية المتمثل في التاريخ العربي المشترك.

 

تزوير التاريخ، وتشويه معاني أحداثه هو ظاهرة عالمية عرفتها الكثير من المجتمعات لأسباب كثيرة، لكن ما يحدث عندنا، في بلاد العرب، هو محاولة خبيثة لاستغلال موضوع التاريخ، ونقد بعض أحداثه لتجاوزها، واستغلاله كأداة سياسية، وثقافية، وطائفية، للإمعان في تمزيق هذه الأمة، والقضاء على كل ثابت من ثوابت هويتها المشتركة، حتى يعيش كل جزء من هذه الأمة في عالمه الخاص، ومشاكله الذاتية البحتة، عند ذلك سيسهل لقوى الاستعمار والصهيونية الاستفراد بكل جزء على حدة، لإخضاعه واستعباده، ونهب ثرواته.

ولذلك، فإن الطريقة التي يتعامل بها البعض مع التاريخ العربي، عبر الكتابات، والمقابلات الإعلامية، ووسائل التواصل الاجتماعي، مملوءة بالأخطاء والأهداف المشبوهة القابعة وراء أقنعة خادعة، وتحتاج هي الأخرى إلى فضح مراميها ومنهجيتها غير العلمية، وغير الموضوعية.

 

أولاً: يركز الكثير من هؤلاء على التاريخ السياسي، ويتعمدون سلخه من التواريخ الأخرى العسكرية، والاقتصادية، والاجتماعية، والثقافية، والعمرانية، والفكرية، والأدبية، بل وحتى العلمية.إنهم بهذا يتجنبون دراسة التاريخ الحضاري العربي الملم بكل الجوانب الحياتية.

 

ثانياً: إن إصرار البعض على اعتبار كل مصادر التاريخ العربية القديمة صالحة للحكم على التاريخ العربي، وعلى الأخص السياسي منه، فيه اعتباطية. فالقاصي والداني يعرف أن بعض تلك المصادر قد أثرت في كتابتها المصالح والأهواء والتعصُبات المذهبية والتفاخرات القبلية. 

 

كما أن منهجيات كتابتها قد تباينت في انضباطها العلمي، وفي موازين فحصها للأمور، خصوصاً أن جزءاً مهماً كان عبارة عن تداولات شفوية تعتمد على أسانيد تعتريها الكثير من التساؤلات.

 

من هنا، فإن وصفاً لحدث، أو قولاً عُزي لهذا الفاعل في الحياة العامة أو ذاك، قد يكون لغو مجالس، أو دردشة عابرة، أو تخيلاً مريضاً. فهل حقاً يمكن الحكم على أمة من خلال أوصاف، أو أقوال عابرة هنا، وهناك؟ لقد تعبنا، نحن العرب، من ادعاءات وكتابات المستشرقين التي قرأت تاريخنا لتنشر فيما بيننا، وفي العالم، بأننا أمة قابلة للتخلف، والكسل، وقبول الاستبداد، والعيش في فوضى دائمة، وصراعات لا تهدأ. وقد اختلطت كتاباتهم وتفاسيرهم بأغراض وإملاءات استعمارية من أجل تأكيد مقولة مركزية التاريخ الحضاري في الغرب من دون غيره.

 

كما فنًد الكثير من المؤرخين والمفكرين العرب تلك المقولات. لكن ما يهمنا ليس استرجاع تاريخ ذلك الافتراء، وإنما الإشارة إلى أنه يعود بقوة في أيامنا الحالية على يد كل يائس، أو غاضب، أو أحمق من أبناء الأمة العربية نفسها. وهي ظاهرة تتلقفها الدوائر الاستخباراتية الاستعمارية و«الإسرائيلية» لتلعب بآثارها السلبية على وعي الجيل الجديد لتحقيق مآربها التجزيئية، ومحاربتها لكل فكر يسعى لتوحيد وإنهاض هذه الأمة.

نلاحظ على الأخص محاولات البعض لهدم، أو تشويه ما تعتبر الشخصيات الأمثولة التاريخية، والتي نالت مراتب الاحترام والإعجاب والاعتزاز في الوجدان الشعبي العربي عبر القرون. ويتركز هذا الهدم، أو التشويه على التفتيش عن نواقص، أو انحرافات في تصرفات أو سلوكات هذه الشخصية التاريخية، أو تلك. وهي نظرة طفولية لا تقبل أقل من الصفات الكاملة الملائكية في من تحب من الأبطال والشخصيات الأمثولة. وينسى هؤلاء المهووسون بالتفتيش عن النواقص، مع تعمد لتناسي الجوانب المشرقة المشرفة في تلك الشخصيات التاريخية، أن البشر ليسوا ملائكة، ولاهم أنبياء معصومون.

 

نذكّر هؤلاء الذين أصيبوا بالهوس بأن جورج واشنطن الأمريكي، وونستون تشرشل الانجليزي، ونابليون الفرنسي، هم أبطال في الذهن الجمعي عند تلك الأمم، بالرغم من نواقصهم الشخصية، أو السلوكية المعروفة. لكن الأمم الواعية المعتزة بتاريخها تركز على البطولات، والإنجازات، والتألق الشخصي في أبطالها التاريخيين، بدلاً من التركيز على نواقصهم البشرية.

 

الهجمة المجنونة على تاريخنا ورموزنا العامة التاريخية ليست بريئة، إذ يختلط فيها الجهل والهلوسات عند البعض، بالخطط الاستخباراتية الاستعمارية و«الإسرائيلية»، لتصبح تدنيساً للتاريخ يحتاج لمواجهة.

 

الخليج الإماراتية