مقالات مختارة

خطورة صناعة الأوثان السياسية

1300x600

في أوائل فبراير 2011 والثورة الشعبية في مصر تحقق نصف انتصار في الشارع والميادين وظهور تفكك مؤسسات النظام القديم أو عجزها عن السيطرة والعمل، لكن مبارك ما زال متمسكا بالسلطة، كنت أذهب إلى ميدان التحرير مستخدما مترو الأنفاق من جهة كوبري القبة، وننزل في محطة جمال عبد الناصر أمام دار القضاء العالي، لأنهم أغلقوا محطة التحرير، وأحيانا كانوا يغلقون محطة عبد الناصر أيضا فننزل قبلها، وكان يركب معنا في هذا الخط بعض من عوام المصريين، أذكر أن أحدهم شبه علي أنني من "بتوع الثورة" فراح يعطيني دروسا في الواقعية السياسية، وقال لي إن مبارك يطعم وينفق على ثمانين مليون مصري، هكذا تصور، اتركوه يشوف شغله، خلوه يكمل مشروعاته، كان مبارك قد قضى في السلطة حوالي ثلاثين عاما، ويتصور بعضهم أنها مدة لم تكن كافية لكي يحقق مشروعاته أو مدة كافية للحكم عليه، ربما نعطيه نصف قرن على الأقل لكي يكمل إنجازاته، والحقيقة أن هذا المنطق كان لغة قطاع من كتاب السلطة وقتها في الصحف القومية وفضائيات الدولة، لكن لغتهم ومنطقهم اختفى تدريجيا مع وضوح صورة أن الثورة في طريقها للانتصار.

أيضا، عندما كان الناس ينتقدون مبارك ويطالبون برحيله، كان السؤال المتكرر من قبل معسكر الواقعية السياسية : هل عندك بديل؟ أعطني البديل قبل أن تتكلم، مصر لا تتحمل المغامرة، وكان هذا المنطق مهينا لمصر وشعبها بطبيعة الحال، أنها لم تلد سوى مبارك الذي يصلح لقيادة الدولة، وعقمت من بعده، وأنه لا يوجد بين تسعين مليون مصري شخص أو أكثر يملك القدرة على القيادة، والحقيقة أن هذا المنطق كان الحكام العرب يدركون أهمية تسويقه بين مواطنيهم جيدا، لذلك كان الرئيس في أي دولة يحرص على أن ينهي مسيرة أي شخص تكون له "كاريزما" أو قبولا عاما أو شعبية، خاصة في المؤسسة العسكرية أو في المجال الحزبي والسياسي، وكان يتم تدميره بالمعنى الحرفي للتدمير وتلويث السمعة، وكان صديق ليبي من مؤيدي القذافي يلخص لي تلك القاعدة في جملة : (علشان تنور لازم تضلم كل اللي حواليك).

اليوم اكتشفت الأصوات ذاتها التي تعتصم بالواقعية السياسية إياها، أن الرئيس عبد الفتاح السيسي قائد عظيم، ليس هذا فحسب، بل اكتشفت أنه حقق في أربع سنوات ما لم يحققه مبارك في ثلاثين سنة، وبعضهم "يبحبح" المسافة بعض الشيء، فيقول أنه حقق في السنوات الأربع ما لم يتحقق في مصر طوال أربعين سنة، ليشمل السادات ومبارك معا، ولم يستشعر هؤلاء أي مشاعر حرج من تناقض خطابهم أمس مع مبارك، واكتشافهم عبقرية السيسي اليوم، وها نحن نتحدث عن السيسي بنفس المنطق والخطاب الدعائي الذي كنا نتحدث به عن مبارك، ومثله عن السادات، وعندما مات عبد الناصر كانت الناس تبكي متصورة أن مصر ستموت من بعده ولن تقوم لها قائمة، ولكن مصر قامت وانتصرت من بعده وحققت ما لم يحققه عبد الناصر منذ توليه السلطة.

الطريف أن تلك الأصوات ذاتها التي كانت تغني لعبقرية مبارك وأنه لا بديل له يصلح لقيادة مصر وأنه لا بد أن يمنح فرصته كاملة في القيادة، عادت لتمتطي صهوة الإعلام من جديد وتروج لحكاية أن السيسي لا يكفيه مدتان رئاسيتان، لا بد أن يعطيه المصريون وقتا كافيا لتحقيق طموحاته ومشروعاته، كما هذه المدة المطلوبة يا حضرات، لا أحد يقول لك شيء فالمسألة مفتوحة على التساهيل، ولو بقي السيسي في منصبه أربعين عاما أخرى فستسمع في نهايتها نفس المنطق ونفس الحجة، رغم أن أعظم دولة بل امبراطورية على وجه الأرض، الولايات المتحدة الأمريكية، يقودها رئيس لمدة أربع سنوات، قد لا يكمل بعدها، وإذا أكمل فلن يتجاوز مدة أخرى مشابهة، ولا يجوز له بعدها تولي المنصب، لضمان عدم تحول منصب الرئاسة إلى بؤرة استبداد وفساد وهيمنة وطغيان، رغم أن الرئيس الأمريكي يدير شؤون العالم وبلاده حاضرة في أي حرب في أي بقعة على وجه الأرض أو أزمة أو اقتصاد أو ديبلوماسية وليس مجرد رئيس لدولة محدودة.

مصر ليست بحاجة إلى صناعة فرعون جديد، يكفي ما فعله فيها الفراعين، وعلى محترفي النفاق السياسي لكل العهود وخبراء دغدغة مشاعر الحكام وتحريك شهوتهم للتمسك بالسلطة أن يتوقفوا عن سمومهم، لوجه الله ولوجه الوطن، يكفينا إهدارا للفرص، يكفينا تجارب، يكفينا بيعا لأوطاننا على مذبح الاستبداد، وانظروا إلى الدول التي كانت أقل منا شأنها قبل خمسين عاما، وكيف وصلت لإنجازاتها الاقتصادية والتقنية والعلمية والاجتماعية والبنية الأساسية العملاقة، مثل كوريا الجنوبية وماليزيا، مصر ولادة بالكفاءات في كل مجال والشخصيات التي تملك الرؤية والإخلاص والقدرة على القيادة، سواء من المدنيين أو من رجال القوات المسلحة، مصر الآن أحوج ما تكون إلى المؤسسات، مصر يتوجب أن تتحول إلى دولة مؤسسات وليست دولة الفرعون الواحد المهيمن على كل شيء فيها، لا أمر إلا أمره ولا قرار إلا قراره، لضمان تراكم الجهد الحضاري والعلمي والعمل واتساقه، مصر بحاجة إلى مؤسسات حقيقية ومستقلة وليست مجرد ديكور، دولة الرجل الواحد لا مستقبل لها، وهي إلى انهيار بكل تأكيد، أيا كان هو وأيا كانت هي. 

المصريون المصرية