أفكَار

تونس.. "النهضة" قدمت نموذجا في القبول بالآليات الديمقراطية

قال بأن مشاركة حركة النهضة في الحكم في إطار التحالفات السياسية إيجابية ومثمرة وواعدة (صفحة الكاتب على الإنترنت)
بين يدي الملف: 

لم يأخذ موضوع تحالفات الإسلاميين السياسية حظه من البحث والدراسة، وذلك لأسباب عديدة منها طول أمد العزلة السياسية التي عاشها الإسلاميون بسبب تحالفات النظم الحاكمة مع بعض القوى السياسية، واستثناء الإسلاميين من هذه التحالفات، بناء على قواسم أيدولوجية مشتركة بين الأنظمة ونلك التيارات.

لكن، مع ربيع الشعوب العربية، ومع تصدر الحركات الإسلامية للعمليات الانتخابية في أكثر من قطر عربي، نسج الإسلاميون تحالفات مختلفة مع عدد من القوى السياسية داخل مربع الحكم، وترتب عن هذه التحالفات صياغة واقع سياسي موضوعي مختلف، ما جعل هذا الموضوع  يستدعي تأطيرا نظريا على قاعدة رصد تحليلي لواقع هذه التحالفات: دواعيها وأسسها وصيغها وتوافقاتها وتوتراتها وصيغ تدبير الخلاف داخلها، وأدوارها ووظائفها، وتجاربها وحصيلتها بما في ذلك نجاحاتها وإخفاقاتها.

يشارك في هذا الملف الأول من نوعه في وسائل الإعلام العربية نخبة من السياسيين والمفكرين والإعلاميين العرب، بتقارير وآراء  تقييمية لنهج الحركات الإسلامية على المستوى السياسي، ولأدائها في الحكم كما في المعارضة. 
اليوم يقدم أستاذ التاريخ المعاصر والراهن بجامعة منوبة بتونس العاصمة الدكتور عبد اللطيف الحناشي قراءة في سياق التحالفات السياسية التي أسهم الإسلاميون في تونس في تشكيلها بعد الثورة:

تونس.. "النهضة" قدمت نموذجا في القبول بالآليات الديمقراطية 

 
تتطلب التحالفات في إطار مراحل الانتقال الديمقراطي الحد الأدنى من التوافق والمرونة بين أطراف التحالف باعتبار التعددية السياسية والأيديولوجية الواسعة والمتنافرة في مجتمعات، لا تقاليد لها في التعامل مع هذه الآلية كما الحال في تونس، التي تعتبر التحالفات الحزبية فيها ظاهرة جديدة في المشهد السياسي. غير أن النظام الانتخابي الجديد، ما بعد الثورة، المُؤَسس على نظام النسبية فرض هذه الآلية التي تمنع أي حزب من الانفراد بالسلطة وحده دون أن يفرض شكل ونوع وحجم تلك التحالفات أو مضمونها.

تجربتان مختلفتان

عرفت تونس، بعد الثورة تجربتين مختلفتين من التحالف والشراكة بين أحزاب سياسية متباينة فكريا و"متنافرة"سياسيا، وكان هدفها على ما يبدو تقاسم أعباء الحكم دون اعتبار للخلفية للأيديولوجية للأطراف الحليفة.
 
تجربة التحالف الأولى: جاءت هذه التجربة بعد انتخابات المجلس التأسيسي في 23 تشرين أول/أكتوبر 2011، وحصول حركة النهضة على أغلبية المقاعد في المجلس، فبادرت بالتواصل مع بعض الأحزاب المدنية بهدف تشكيل حكومة ائتلافية واسعة، غير أن تلك الأحزاب رفضت الاشتراك في حكومة تقودها حركة ذات مرجعية إسلامية، في حين قبل حزبان علمانيان كانا ضمن قوى المعارضة للنظام قبل الثورة، وهما حزب التكتل من أجل العمل والحريات وحزب المؤتمر من اجل الجمهورية الذي كان أحد مكونات هيئة 18 أكتوبر2005 . 

ساهمت الأطراف الثلاثة في تشكيل حكومتين سيّرتا البلاد لنحو سنتين (16 شهرا مع حمادي الجبالي و8 أشهر مع علي العريض)، دون أن يمتلك أي طرف منهم تجربة سابقة في الإدارة والحكم، وفي ظل ظروف وطنية وإقليمية دقيقة وحرجة منها :

ـ صعوبة الظرفية الاقتصادية والاجتماعية.

ـ سيادة احتقان سياسي وإيديولوجي حادة مع المعارضة على خلفية النقاش حول قضايا جوهرية تخص طبيعة النظام وأسس الجمهورية الثانية، ساعد على تمدده وارتفاع منسوبه الحدث المصري المتمثل في عزل محمد مرسي رئيس الجمهورية وإزالة حكم الإخوان.

ـ استمرار وتعقّد الأزمة الليبية.

ـ تنامي الظاهرة الإرهابية واغتيال مناضلين يساريين (شكري بلعيد ومحمد البراهي).

واجه التحالف في هذه التجربة صعوبات ومشاكل سواء داخل كل حزب من أحزاب الائتلاف أو بين الأحزاب المتحالفة حول قضايا أيديولوجية، (بعض فصول الدستور ذات العلاقة بالشريعة وطبيعة النظام السياسي والهوية) أو نتيجة احتكار النهضة وزارات السيادة (دون الجيش)، بالإضافة إلى أهم المناصب العليا في مختلف الأجهزة والمؤسسات الإدارية والسياسية والدبلوماسية، وذلك على خلفية اعتماد التحالف على المحاصصة الحزبية، وليس على برامج ومشاركة متساوية بين أطراف الحليفة.

التجربة الثانية: برزت هذه التجربة بعد لقاء باريس بين رئيسي الحزبين الباجي قائد السبسي رئيس حزب نداء تونس (تشكل من عدة روافد سياسية يسارية ونقابية وشخصيات أساسية من النظامين السابقين) وراشد الغنوشي رئيس حركة النهضة (15 آب/أغسطس 2013) وكان من نتائج اللقاء:

ـ الاتفاق نحو الدفع بالحوار الوطني إلى الأمام.
ـ استقالة حكومة النهضة الائتلافية. 
ـ تأسيس حكومة كفاءات. 
ـ تراجع حركة النهضة عن تمرير قانون "تحصين الثورة" في البرلمان.
ـ قبولها ببعض فصول الدستور التي تتناقض ومرجعيتها الفكرية (من ذلك الفصل السادس من الدستور حول حرية الضمير).
ـ إجراء الانتخابات التشريعية في موعدها 26 تشرين أول / أكتوبر 2014

تشكلت على خلفية نتائج تلك الانتخابات حكومة ائتلافية جديدة ضمت حزب نداء تونس وحزب النهضة و3 أحزاب علمانية وبعض الشخصيات المستقلة المحسوبة على الاتحاد العام التونسي للشغل. وتمكن التحالف الجديد (التوافق) من الحدّ من منسوب الاحتقان السياسي  والانقسام المجتمعي والنخبوي الواسع على خلفية أيديولوجية.

تنازلات موجعة

ورغم التنازلات "الموجعة"، حسب تعبير أحد قياديها، التي قدمتها النهضة، يبدو أن الحركة استفادت من تجربتها الأولى في الحكم في إطار تحالفها المحدود، فاقتنعت بأن تكون تجربة التحالف الثانية في إطار تحالف أوسع  يضم عدّة أحزاب، فقدمت الحركة عدة تنازلات من ذلك أنها قَبِلَتْ بالإشراف على وزارات لا تتماشى مع وزنها في مجلس نواب الشعب (احتلال الحركة المرتبة الثانية بعد نداء تونس) وهي وزارات ذات طابع خدمي في الغالب تعاني من مشاكل متراكمة، كما قَبِلَتْ أن يتولى حليفها، نداء تونس، الرئاسات الثلاث بالإضافة إلى وزارات السيادة. ما يشي إلى أن الحركة  كانت على إدراك بأن نجاح أي تحالف سياسي، في إطار مراحل الانتقال الديمقراطي، بين أطراف متباينة أيديولوجيا وسياسيا يتطلّب منسوبا معتبرا من التوافق والتضحية بالمصلحة الحزبية لصالح المصلحة العامة، في إطار ظروف داخلية وإقليمية غير مواتية.

ومن البديهي القول بأن المشاركة السياسية في النظام الديمقراطي حق دستوري لكل الأحزاب التي تلتزم بفصول الدستور وتعمل على صيانته وتحترم التعددية السياسية والحريات الفردية والعامة والقبول بالتداول السلمي على السلطة. ولعل قبول حركة النهضة المشاركة في الحكم إلى جانب خصمها الرئيسي"السابق" (نداء تونس) كان مجازفة لها ولحليفها الجديد، غير أن هذا التحالف على أساس التوافق ساعد حركة النهضة في مواصلة "التطبيع" مع مؤسسات الدولة، وأكسبها تجربة في التسيير والتدبير، وساهم في فكّ جزء مهم من "سياج العزلة" والاستهداف السياسي والإعلامي، الذي كانت  الحركة عرضة له زمن إدارتها لحكم الترويكا. 

كما فتحت هذه التجربة المجال  للمجتمع وللنخبة للتعرف على حقيقة فكر الحركة وسلوكها السياسي، كما كانت فرصة مناسبة للحركة ذاتها للعمل والنشاط العلني بعيدا عن الضغوطات الأمنية، ما قد (ساهم) ويساهم في تطوير أفكارها وبرامجها وتنظيمها وعقلنة سلوكها السياسي.

مشاركة واعدة

لذلك تبدو مشاركة حركة النهضة في الحكم في إطار التحالفات السياسية إيجابية ومثمرة وواعدة، باعتبار اندماجها لأول مرة في النظام السياسي التونسي، عكس تجارب بعض الحركات الإسلامية في العالم العربي كحضور حركة الإخوان المسلمين في المجالس النيابية في كل من مصر والأردن وحزب العدالة والتنمية في المغرب في المجالس المحلية والبلديات (قبل 2011). كما يمكن لهذه التجربة "الفريدة" في حالة ترسيخها وتواصلها، أن تبرز للعالم إمكانية اندماج الأحزاب ذات المرجعية الإسلامية  في إطار النظام الديمقراطي.

لكن هل أن تعاطي حركة النهضة مع آليات النظام الديمقراطي (الوجود القانوني والإنتخابات) وخيار التحالف مع أطراف أخرى كان تعاطيا مرحليا تكتيكيا أو ظرفيا، فرضته إكراهات الواقع المحلي والإقليمي والدولي، أم إنه يشكّل قناعة راسخة بقيم النظام الديمقراطي بأبعاده المختلفة الثقافية والسياسية والاجتماعية؟

من الصعب معالجة تلك الإشكاليات الفرعية بما يتعلق بالتجربة التونسية بخصائصها وفرادتها، مقارنة بتجارب إسلامية أخرى، ما يتطلب سنوات وربما عقودا زمنية مقبلة حتى تترسخ التجربة وتظهر نتائجها.
 

*أستاذ التاريخ المعاصر والراهن بجامعة منوبة.تونس