قضايا وآراء

العنف الطائفي ابن بيئته.. المنيا نموذجا

1300x600
سجلت محافظة المنيا، الموصوفة بعروس الصعيد في مصر، أكبر عدد من الأحداث الطائفية بين المسلمين والأقباط خلال الفترة الأخيرة، حتى أصبحت المحافظة التي تعد أكبر محافظات الصعيد؛ عاصمة للعنف الطائفي.

لم يكد المصريون ينسون الجريمة البشعة بقتل سبعة من زوار دير الأنبا صمويل مطلع تشرين الثاني/ نوفمبر الماضي، حتى فوجئوا بجريمة جديدة، بقيام جندي حراسة مسلم لإحدى الكنائس بقتل مسيحيين (تاجر وبنه)، على خلفية خلافات مادية بينهم، وهي الحادثة التي لا تزال أصداؤها وتداعياتها تتفاعل في مصر، حيث نظمت العديد من الكنائس صلاة خاصة لها يوم أمس الأحد، كما نظم المسيحيون في أماكن مختلفة من العالم فعاليات احتجاجية للغرض ذاته.

رغم التمنيات بأن تكون تلك الجريمة هي آخر الأحزان، إلا أن الواقع ينبئ بعكس ذلك للأسف، فالأجواء الطائفية المحتقنة لا تزال قائمة، وبالتالي لا يستطيع أحد التكهن بموعد وحجم الجرائم الطائفية المستقبلية. فمحافظة المنيا التي تعد الأكبر عددا من حيث السكان في صعيد مصر (خمسة ملايين ونصف مليون نسمة تقريبا) هي من أقل المحافظات في مخصصات التنمية، وتبلغ نسبة الفقر فيها 48 في المئة، بينما تبلغ نسبة الأمية 38 في المئة، وتبلغ نسبة الحضر إلى الريف فيها 19 في المئة فقط. وفي ظل هكذا أوضاع متردية، تمتلئ النفوس بالاحتقان عموما من سوء الأوضاع المعيشية والأمنية.. الخ، ويكون العنف الطائفي هو أحد مسالك تفريغ شحنات الغضب والاحتقان. وما يسهم في تغذية هذا المسار هو التجاور بين المسلمين والمسيحيين في الكثير من المناطق الريفية بالذات، حيث تتحول الاحتكاكات اليومية التقليدية، سواء في مواقع العمل أو في الشارع، إلى عنف طائفي على الفور، أو هكذا يتم تصويرها عبر وسائل الإعلام.

تحتضن محافظة المنيا أكبر وجود مسيحي في مصر، ربما يصل إلى 15 في المئة من عدد سكانها، كما تحتضن العديد من الأديرة المسيحية الشهيرة التي كانت جزءا من مسار العائلة المقدسة في مصر، مثل جبل الطير، ودير أبوفانا، ودير الأنبا صمويل، ودبر الجرنوس، ودير أباهور، ودير أبو حنس، ودير البرشا. وعلى مدار السنوات الماضية، وفي ظل عمليات فرز طائفي انتقل بموجبها مسيحيون من قرى إلى قرى، تحولت العديد من القرى إلى قرى مسيحية، وهي تجاور قرى مسلمة. وتحدث عادة في الصعيد مناوشات بين أهل القرى المختلفة لأسباب تقليدية، ويحدث هجوم من قرية على أخرى، لكن حين يحدث ذلك بين قرية مسلمة وأخرى مسيحية، فإنه سرعان ما يكتسي اللون الطائفي المقيت.

وضمن العدد الكبير لسكان محافظة المنيا، هناك كتلة مسيحية هي الأكبر في مصر، حيث تبلغ نسبتها حوالي 15 في المئة، وربما يكمن أحد اسباب التوتر حول إدعاءات عدد المسيحيين، حيث تزعم النائبة المسيحية مارجريت عازر، وكيلة لجنة حقوق الإنسان في البرلمان، أن نسبة الأقباط تبلغ 60 في المئة من عدد سكان المنيا، وهو أمر غير صحيح بالمرة، فأنا من أبناء المنيا، وأعرف أن النسبة في أعلى تقدير لن تتجاوز الـ15 في المئة، وذلك من خلال معرفة مباشرة بالحضور المسيحي في القرى والمدن المختلفة. ولا يتصور أحد أن وجود قرى مسيحية بالكامل هو دليل على ضخامة العدد، فمقابل هذه القرى التي لم تعد أيضا مسيحية خالصة، لوجود نسب لا بأس بها من المسلمين فيها، يقابلها أعداد أكبر من القرى التي لا يوجد فيها أي حضور مسيحي. ولا ينفي هذا وجود قرى مختلطة، وهي التي تشهد الكثير من الأحداث المصنفة طائفية.

علينا أن نميز بين نوعين من الجرائم الطائفية التي تشهدها المنيا، فالجرائم الكبرى التي هزت ضمير العالم هي جرائم إرهابية نفذها تنظيم داعش، وقد أعلن مسؤوليته الفعلية عن ذلك، سواء في جريمة دير الأنبا صمويل الأولى التي أودت بحياة 29 مسيحيا، في أيار/ مايو 2017، أو الثانية التي راح ضحيتها سبعة، في 2 تشرين الثاني/ نوفمبر 2018 ، أو حتى قتل 21 مسيحيا مصريا في ليبيا في منتصف شباط/ فبراير 2015، وذلك في إطار سياسة التنظيم ومواجهاته المستمرة مع نظام السيسي، والتي يستغل فيها المسيحيين كورقة ضغط ضد النظام، وهو أمر مرفوض ومستهجن تماما.. وهناك جرائم طائفية متكررة بحكم الجوار الجغرافي لبيوت أو قرى المسلمين والمسيحين، وهذه ناتجة عن وجود المناخ الطائفي المقيت الذي تغذيه بعض العوامل السياسية والاجتماعية والاقتصادية.

إلى جانب الوجود المسيحي البارز في المنيا، هناك أيضا وجود قوي للتيار الإسلامي، حيث تعد المنيا أبرز معاقله، فهي أكبر حاضنة للجماعة الإسلامية، ولدت على أرضها وترعرعت عليها، وهي من أبرز مناطق الحضور الإخواني، حيث أن رئيس برلمان الثورة سعد الكتاتني هو أحد رموزها. وربما ساهمت عمليات القمع التي تعرضت لها الجماعات الإسلامية في عهد مبارك أو السيسي في تغذية المناخ الطائفي، حيث تبرز مقارنات بسطاء الناس بين هذا القمع الذي يتعرض له الإسلاميون، في مقابل التسامح الأمني مع المسيحيين.. هنا أنا أرصد وأحلل فقط، ولكنني حتما لا أبرر هذا المناخ، أو تلك المقارنات، كما أن انحياز الكنيسة السافر للانقلاب ساهم بقوة في تغذية المشاعر الطائفية في المحافظة التي استشهد العديد من أبنائها، سواء في اعتصام رابعة أو النهضة أو في المظاهرات المناهضة للانقلاب داخل المحافظة نفسها، كما حكم على الكثيرين منهم بأحكام إعدام ومؤبد. وللتذكير هنا، فقد حكمت محكمة جنايات المنيا بالإعدام على 580 مواطنا في أحد الأحكام، وأتبعته بحكم آخر بالإعدام أيضا بحق 800 تقريبا، قبل أن تعيد محكمة النقض هذين الحكمين لمحكمة أخرى؛ خفضت أعداد المحكومين بالإعدام.

لا يعني هذا الحضور القوي للتيار الإسلامي مشاركته في الجرائم ضد المسيحيين على مدار أكثر من عشر سنوات ماضية، بعد أن أعلنت الجماعة الإسلامية توقفها التام عن العنف، بل إن الكثيرين من رموز التيار الإسلامي كانوا يسارعون لإطفاء العديد من الفتن الطائفية في مناطقهم، لكن وجود المناخ الطائفي عموما الناتج عن العديد من الأسباب السياسية أو الاقتصادية - كما ذكرنا - هو الذي يسهم في تحويل العديد من المشكلات الحياتية اليومية إلى مشكلات طائفية، وهو الذي أسهم في تبوؤ محافظة المنيا صدارة الحوادث الطائفية في مصر منذ انقلاب الثالث من تموز/ يوليو 2013 وحتى الآن. وللتذكير هنا، فعندما تم الاعتداء على العديد من كنائس المنيا عقب فض اعتصام رابعة، وحين اتهم إعلام النظام الإخوان المسلمين بارتكاب تلك الحوادث، خرج أسقف المنيا مكاريوس نافيا ذلك، ومؤكدا أن بلطجية عاديين هم من ارتكبوا تلك الجرائم.

أحدث العنف الطائفي في المنيا غير مبررة على كل حال، وهي أشد خطرا على الوطن ووحدته وسلامته، وهي مدعاة لتدخلات أجنبية ضارة لا تستهدف مصلحة الأقباط، ولكنها تستهدف تحقيق أغراضها الخاصة مستغلة تلك الأحداث. ومن واجب كل عقلاء المسلمين التصدي لهذه الروح الطائفية التي تنتج تلك الحوادث، وعدم السماح بوقوعها، وتحول بعضها من عادية إلى طائفية. وكذا من واجب الأقباط بذل جهدهم لمواجهة هذا الاحتقان الطائفي؛ بالضغط على قيادة الكنيسة للتخلي عن موقفها الداعم للاستبداد والانقلاب، وأن لا يغتروا بموافقة السلطة على تقنين أوضاع عشرات أو مئات الكنائس. فالأصل أن يحصل المسيحون على تصاريح بناء كنائسهم بشكل طبيعي وفقا للقانون، وليس وفقا لصفقات سياسية مريبة.