كتب

حقوق الإنسان من اللغة الأخلاقية إلى التطويع والهمينة (2-2)

قال إن حقوق الإنسان -كمنظومة وأطروحة أخلاقية- تنتهي إلى أن تكون دائما أداة بيد السلطة

عن "حق الإنسان" في الهيمنة
المؤلف: نيكولا بيروجيني ونيف غوردون
ترجمة: محمود محمد الحرثاني
مراجعة: سعود المولى
الناشر: المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات
الطبعة: الأولى 2018، بيروت، قطر
عدد الصفحات: 320
.....................................................................

 

لاحظ الكتاب بنفس رصدي وتحليلي ونظري تراجع اللغة المشتركة في النقاش الأخلاقي العالمي حول حقوق الإنسان، وكثافة التوظيف والاستعمال السياسي لهذه المنظومة من أجل الهيمنة والتموقع في موازين القوى الدولية، إذ بدأت تستعملها الدول وتكيف مؤسساتها وأجهزتها معها، وتتكون عليها، بل أصبحت المؤسسات ومراكز البحوث الموالية لها، كما هو الشأن في مراكز البحوث التي يرعاها الجمهورين المحافظون في أمريكا، تقدم نفسها على أساس أنها منظمات حقوق إنسان.

أزمة التوظيف السياسي لحقوق الإنسان

ويثير الكتاب مفارقة أخرى تكشف أزمة التوظيف السياسي لحقوق الإنسان، وكيف تصبح بعض القضايا محل تجاذب بين لوبيات مختلفة داخل أروقة الأمم المتحدة، وكيف تحاول كل واحدة منها أن تستخدم حقوق الإنسان من أجل دعم مصالحها، ومثلت لذلك بالصراع بين المدافعين عن المثلية الجنسية وبين المناهضين لها، وبين المدافعين عن الإجهاض وبين المدافعين عن الحق في الحياة، وبين المدافعين عن الحق في استخدام السلاح وبين المناهضين له، ويرى المؤلفان، أن هذا الصراع في جوهره، يكشف تقاربا في استعمال لغة حقوق الإنسان ومؤسساتها واستراتيجياتها وذلك بين المحافظين والليبراليين،  وأن طرفي الصراع يتفقان على آليات التدافع كما آليات تدبير الصراع، إذ تشترك منظمات حقوق الإنسان المتصارعة على احترامها للافتراضات القانونية على سلطة القانون ودور المحكمة في الحسم في الخلاف، كما  تتشابه استراتيجياتهم في السعي للتمكين لحقوق الإنسان والدفاع عنها، إذ يتفق الجميع على المنهجيات المعتمدة والتقنيات الملائمة لجمع البيانات ومعاييرها الصالحة ومعايير الدلائل، مع الاحتفاظ بالحق في تفسير البيانات باختلاف التوجهات، كما يتم استخدام الأدلة على انتهاكات حقوق الإنسان من الجميع لتوليد المعاني وتوزيع الاتهامات أو التبرئة، وأيضا من أجل ترتيب الاستراتيجيات والأجندات التدخلية. ويسمى الكتاب هذا التشابه بالاستنساخ بقصد تعزيز الأهداف والأجندات السياسية.

 

تظهر عمليات القلب والإبدال أكثر، في النموذج الإسرائيلي في ممارسة العنف والتشريد

وبالإضافة إلى عمليات الاستنساخ الكثيفة التي تقع على مستوى المنهجيات، يلاحظ الكتاب عمليات أخرى يتم استعمالها، يصطلح عليها بعمليات القلب والإبدال، ويعطي على ذلك أمثلة موضحة، مثل الاستعمال الكثيف لمفردات حقوق الإنسان لمناصرة المثلية من قبل بعض المنظمات الليبرالية، ومناهضتها من قبل بعض المنظمات المحافظة باسم حماية الأسرة والعائلة، وأيضا مثل قضية استعمال السلاح، والصراع بين المنظمات التي تستعمل مفردات حقوق الإنسان لدعم لوبيات السلاح، وبين المنظمات التي تستعمل نفس اللغة من أجل وقف عنف السلاح، وتظهر عمليات القلب والإبدال أكثر، في النموذج الإسرائيلي في ممارسة العنف والتشريد، فبينما تكافح منظمات حقوق الإنسان من أجل مناهضة الاستيطان والانتهاكات الحقوقية ضد الشعب الفلسطيني، يستعمل الكيان الصهيوني وكذا المنظمات المحافظة التي تشترك معه في الطرح  نفس اللغة الحقوقية، فتبرر العنف الإسرائيلي بمقولات: "عنف الفلسطينيين واعتدائهم على المستوطنات" وتصور المستوطنين اليهود باعتبارهم السكان الأصليين الذين يتعرضون للغزو والاعتداء الفلسطيني!

 

إن الدول التي وضع الضعفاء مطالبهم أمامها كي تتحلى بمزيد من الأخلاق في ممارسة السلطة، فقد انتهى الأمر بها إلى مزيد من التمكين لفرض السلطة وشرعنة التدخلات العنفية

وتكشف عمليات القلب والإبدال التي توقف الكتاب عند ماهيتها ونماذجها، أن حقوق الإنسان التي كان ينظر إليها في العادة على أنها تقدمية وتحررية، أضحت بسبب التوظيف السياسي لها، مرتبطة بالهيمنة، ويقدم الكتاب نماذج أخرى لتثبيت هذه الأطروحة، وتتمثل في الانعطافة داخل مؤسسات الجيش التي ينظر إليها باعتبارها مؤسسات ممارسة العنف، وكيف أضحت تدمج دورات حقوق الإنسان في التدريب العسكري، في تصور أداتي لحقوق الإنسان، يتخذ كذريعة لتحقيق أهداف سياسية، وفي الوقت ذاته يمثل إطارا معرفيا يشكل الطريقة التي يتصور بها الفاعلون المختلفون مواقعهم داخل الفضاء الاجتماعي والأهمية السياسية للحوادث التي يشهدونها أو يشعرون إزاءها بالقلق.

في مناهضة الأنموذج الهيدروليكي لحقوق الإنسان

من خلال الاشتغال على عدد هائل من المعلومات والبيانات والمعطيات والأحداث والمذكرات والتقارير والمرافعات والحملات والبروتوكولات والنقاشات البرلمانية التي تخص موضوع إسرائيل-فلسطين، فضلا عن مقابلات أجراها الباحثان مع عدد من منظمات حقوق الإنسان، فقد انتهيا في خلاصاتهما إلى نقد الأنموذج الهيدروليكي الذي يرى أن مزيدا من حقوق الإنسان يساوي قليلا من الهيمنة، أو يربط بين تعزيز حقوق الإنسان وتمكين الضعفاء أو التمكين للعدالة أو تصحيح المظالم وفضح الانتهاكات. 

ويرى الكتاب أن هذا الأنموذج كذبته أشكال ممارسة السلطة، كما كذبته عمليات التكيف التي قامت بها السلطة من أجل توظيف حقوق الإنسان نفسها، فعلى المستوى الأول، فإن الدول التي وضع الضعفاء مطالبهم أمامها كي تتحلى بمزيد من الأخلاق في ممارسة السلطة، فقد انتهى الأمر بها إلى مزيد من التمكين لفرض السلطة وشرعنة التدخلات العنفية، وعلى المستوى الثاني، فإن الضعفاء أو من يزعمون أنهم يمثلونهم، حينما يستدعون حقوق الإنسان لمطالبة المهينين بالتحرك، فإنهم لا يفعلون أكثر من مطالبتهم باستخدام العنف من أجل حماية حقوق الإنسان كما يرونها، فيصبح العنق وسيلة لحماية حقوق الإنسان ضد عنف ينتهكها !! 

والنتيجة أن حقوق الإنسان -كمنظومة وأطروحة أخلاقية- تنتهي إلى أن تكون دائما أداة بيد السلطة، بحكم أنها مغلولة في الواقع بقيود السلطة.

 

إقرأ أيضا: حقوق الإنسان كوسيلة للهيمنة.. إسرائيل وأمريكا نموذجا 1من2