قضايا وآراء

ثورة تآمر عليها أصحابها!

1300x600

مرت ثمانية أعوام على أعظم ثورة في تاريخ مصر الحديث، ثورة 25 يناير، مرور الكرام، سواء كان على المستوى الرسمي أو الشعبي، وإن كان مفهوماً لماذا لم تحتف به وسائل الإعلام التابعة للنظام، فرأس النظام يكره ثورة يناير ويعاديها ويزج بكل رموزها في السجون ويحاكمهم بتهم باطلة، فكيف له أن يحتفل بهذه الثورة التي يعتبرها مؤامرة؟! وإن كان يداهن الشعب بكلمة سنوياً في ذكراها، وهو الذي حذر أكثر من مرة، بأن ما حدث عام 2011 لن يتكرر، ودائماً ما يذكرها بـ"الأحداث" وليست بـ"الثورة"!

أما الجماهير الغفيرة التي خرجت في ذلك اليوم ضد الظلم والطغيان والفساد بشكل عفوي، كاسرة حاجز الخوف الموروث عبر الأجيال السابقة، والأنظمة الفاشية مطالبة بالحرية والكرامة الإنسانية والعدالة الإجتماعية، فقد أعادها النظام مرة أخرى لحظيرة الخوف والقهر، على الرغم أن الأسباب التي خرجت من أجلها في 25 يناير عام 2011 هي ذاتها التي تستدعي خروجها مرة أخرى عام 2019، بل إن الأوضاع قد زادت سوءاً عما كانت عليه إبان حكم مبارك، وأصبح المواطن يعاني الأمرّين في ظل هذا النظام الفاشي الذي يكبت الحريات، ويرفع الدعم عن السلع، ويدفع المواطن ليعيش في حالة من العوز والفقر، يئن لها ليلاً ونهاراً، ولكنه لا يستطيع أن يصرخ فصرخته ستكلفه الكثير، وربما يدفع حياته ثمناً لهذه الصرخة، أو على أقل تقدير يكون في غياهب السجون، فآثر السلامة والجلوس بين جدران منزله الباردة، يحمل في يده ذلك الجهاز العبقرى الصغير، الذي ينفّس من خلاله عن حريته المفقودة، وثورته المغتصبة، فامتلأت صفحات التواصل الاجتماعي بذكريات ثورة يناير، كتأريخ حقيقي لها في مقابل روايات أبواق النظام الكاذبة التي تسعى لطمسها والإساءة إليها، وتريد أن تزورها وتشوهها. وزُينت الصفحات بصور الشهداء الذين قدموا أرواحهم فداءً للحرية التي لم ينعم بها الشعب طويلاً، وربما دفعوا حياتهم لشعب لا يستحق هذه الحرية، فمات الأحرار وعاش الجبناء! احتفل الشعب بثورته من خلال شبكات التواصل الإجتماعى.

حقاً لقد كانت ثورة 25 يناير ملحمة إنسانية رائعة تكاتف فيها جميع أفراد الشعب بمختلف أطيافه السياسية وبكل طوائفه الفكرية والعقائدية، مُسقطين كل انتماءاتهم تحت أقدامهم عدا انتمائهم لمصر، حيث علا على كل انتماء، ولتتوحد الحناجر في سيمفونية واحدة تهتف: "الشعب يريد إسقاط النظام"، "ارفع راسك فوق أنت مصري"، "عيش حرية عدالة اجتماعية كرامة إنسانية".. تلك الصيحات التي زلزلت أرض مصر عام 2011، وامتددت تبعاتها إلى بلدان عربية أخرى في ليبيا وسوريا واليمن. ولا غرابة في ذلك، فنحن أمة عربية واحدة، شعبها واحد لكن فرقته الدول الاستعمارية في دول عدة..

 

أسقطوا رئيساً ديكتاتورياً وحكماً فاسداً، ولكنهم لم يسقطوا نظاماً، وهذه كانت الخطيئة الكبرى التي وقعت فيها الثورة، وكانت المنفذ أو الباب الذي عاد منه النظام بتآمره مع القوى الإمبريالية والإقليمية

ثماني سنوات مضت على ثورة المصريين التي أبهرت العالم أجمع بسلوكها الحضاري، واعتبرت بمثابة العبور الثاني لمصر بعد عبور حرب أكتوبر. كان حلماً جميلاً لطالما حلم به المصريون، وأصبح أمامهم حقيقة لا خيالا.. أسقطوا رئيساً ديكتاتورياً وحكماً فاسداً، ولكنهم لم يسقطوا نظاماً، وهذه كانت الخطيئة الكبرى التي وقعت فيها الثورة، وكانت المنفذ أو الباب الذي عاد منه النظام بتآمره مع القوى الإمبريالية والإقليمية، والتي تخشى أن يمتد رياح الثورات إلى بلدانها فتطيح بعروشها، وأقصد بالطبع المملكة العربية السعودية ودولة الإمارات، ذراعي الكيان الصهيوني في المنطقة ومعقل الثورات المضادة، واللتين تدار منهما كل المؤامرات ضد الشعوب العربية والأمة الإسلامية ككل. هاتان الدولتان بالذات استطاعتا أن تحولا حلم المصريين لكابوس مخيف، كما فعلت مع الثورات العربية الأخرى، وإن كانت قد أخذت شكلاً آخر في مصر، خشية أن تصيب شعوبها عدوى الديمقراطية والتغيير، فمصر دائماً هي مقدمة القاطرة التي يتبعها الآخرون!! فأنفقت مئات المليارات من الدولارات من أجل إسقاط رئيس منتخب ديمقراطياً في انتخابات حرة تحدث لأول مرة، ليس في تاريخ مصر فحسب بل في تاريخ المنطقة العربية بأسرها، وشهد بنزاهتها العالم أجمع. وحدث الانقلاب العسكري، الذي من المؤكد أنه أخذ الضوء الأخضر من أمريكا..

لم تكن الثورة المصرية تروق للقادة الصهاينة مثلهم مثل الحكام العرب، فبصرف النظر عن أنهم يريدون أن يظل الكيان الصهيوني هو واحة الديمقراطية الوحيدة في المنطقة، إلا أنهم يخشون أيضاً من صحوة الشعوب العربية وانقلابهم على حكامهم، وكلائها في المنطقة وحراس كيانها المغتصب.

ولكن لا نستطيع أن نعفي النخب، وخاصة تلك التي شاركت في ثورة 25 يناير وكانت من أيقوناتها، من تآمرها على الثورة ووضع أيديها في أيدي أعداء الثورة، لمجرد وصول خصمهم السياسي إلى سدة الحكم، فانقلبوا على الديمقراطية التي كانوا يتشدقون بها، وارتضوا أن يكونوا المطية التي يعبر عليها العسكر بدباباته من فوق ظهورهم في سهرة 30 حزيران/ يونيو، ليرتدي الانقلاب ثوباً مدنياً أمام العالم!

 

لا نستطيع أن نعفي النخب، وخاصة تلك التي شاركت في ثورة 25 يناير وكانت من أيقوناتها، من تآمرها على الثورة ووضع أيديها في أيدي أعداء الثورة، لمجرد وصول خصمهم السياسي إلى سدة الحكم، فانقلبوا على الديمقراطية

تلك النخبة المنحطة، بعد أن ضاع أملها بأخذ أي منصب أو مركز في النظام الذي استدعته، والتي كانت تعتبر نفسها من ركائزه الأساسية، فهي من أبطال مسرحية 30 يونيو، وبعد أن طالتها أيضاً يد البطش والظلم وزج ببعض رموزها في السجون، بدأت تصرخ من هذا النظام الفاشي، ولكنها لا تزال في عنادها وتأخذها العزة بالإثم لأن تعترف بخطيئتها، وتكره وصول الإسلاميين إلى الحكم، وتريد أن تقصيهم نهائياً من الساحة السياسية وممارسة أي عمل سياسي، وفي الوقت ذاته تطالبهم بالاصطفاف في مواجهة النظام واستعادة ثورة يناير! ثورة يناير البيضاء التي لا تشوبها شائبة لا يمكن بأي حال من الأحوال أن تلتقي مع مسرحية 30 يونيو الساقطة الملوثة بالدولارات والريالات، والغارقة في دماء الأبرياء. إنها نخب انتهازية فاسدة، كانت سبباً لنكسة الثورة وإلى ما وصلنا إليه الآن..

بعد مرور ثماني سنوات على الثورة وتفرق الثوار إلى شيع وأحزاب، كل مضى في طريق، مُلقيا التهم جزافاً على الحزب الآخر، وأصبح الانقسام والاستقطاب الحاد سمة الشعب المصري حتى داخل الأسرة الواحدة، وصدّقت تلك الأغنية "أنتو شعب واحنا شعب"، والتي صدرت بعد الانقلاب واستنكرناها في حينها، ولكنها كانت تعبر عن واقع خططوا له جيداً بخبث شديد، فقسّموا الشعب وجعلوا أهل مصر شيعاً، كلا له شهداؤه ومعتقلوه الذين يدافع عنهم، ولا يسأل عن شهداء ومعتقلي الطرف الآخر، بل يشمت في هذا الآخر للأسف الشديد.. تلك اللغة التي أصبح المصريون يتكلمون بها!

في الحقيقة هذه الخطة قد وضعها النظام منذ نجاح الثورة وخلع مبارك، ولكنها كانت مؤجلة إلى حين ينقضون على الثورة ويجهضونها، ويقوموم بانقلابهم الذي كان مُعداً أيضا من ذلك اليوم. وطوال هذين العامين اللذين سبقا الانقلاب، كانوا يؤججون تلك الفتنة ويغرسون بذور الكراهية والحقد بين أبناء الوطن الواحد..

 

هل يصلح في ظل هذا الاستقطاب والإقصاء وزرع بذور الكراهية في التربة المصرية أن يعود الوئام بين أفراد الشعب المصري، وتعود اللحمة بينهم مرة أخرى كما كانت عليه في 2011؟

بعد خلع مبارك مباشرة قسّموا الشباب في الميدان إلى عشرات الائتلافات والأحزاب، وتم تدجينهم في مصنعهم، باعتراف اللواء "سامح سيف اليزل" في إحدى لقاءاته التلفزيونية بعد الانقلاب أن القوات المسلحة مولت أحزاب شبابية لمواجهة الإخوان المسلمين..

ويبقى السؤال قائماً: هل يصلح في ظل هذا الاستقطاب والإقصاء وزرع بذور الكراهية في التربة المصرية أن يعود الوئام بين أفراد الشعب المصري، وتعود اللحمة بينهم مرة أخرى كما كانت عليه في 2011؟ أم سنظل هكذا ندور في دائرة مفرغة لا تنتهي من الاتهامات والاتهامات المضادة من كلا الأطراف؟ فهذا ضيّع الثورة بغبائه، وذاك باع الثورة بانتهازيته.. إلى آخره من تلك الاتهامات، ونظل نبكي على اللبن المسكوب ونحوّل ذكرى ثورة 25 يناير كل عام إلى بكائيات وكربلائيات، وننسى مصر التي خرج الملايين من أبناء شعبها في ثورتهم، وهم مطالبون اليوم أيضا بأن يخرجوا من أجل إنقاذها ونبذ الخلافات جانباً.

الكل مساهم بشكل أو آخر بما وصلت إليه مصر الآن، فقد غابت الرؤية عن الجميع، ولا تزال غائبة حتى الآن، كما أن غياب قائد للثورة ساعد في ذلك، وكانت هذه هي إحدى نقاط الضعف في الثورة، فالكل يريد أن يكون هو الأب الوحيد لها، فضاعت الثورة بين آبائها الشرعيين وغير الشرعيين الذين ظهروا فجأة بعد نجاحها، وآه من هؤلاء الآباء غير الشرعيين ذوي الياقات البيضاء، الذين أضاعوا دماء الشهداء هدراً!!

لقد كانت حقاً ثورة 25 يناير ثورة شعب هب ضد الظلم والطغيان، وهبة من الله سبحانه وتعالى، لكن للأسف لم نحافظ عليها ولم نصنها ولم نرعها حق رعايتها، فاستحققنا ما نحن عليه الآن!

الأكثر قراءة اليوم
الأكثر قراءة في أسبوع